سورة هود تفسير السعدي الآية 95

كَأَن لَّمۡ یَغۡنَوۡاْ فِیهَاۤۗ أَلَا بُعۡدࣰا لِّمَدۡیَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ ﴿٩٥﴾

تفسير السعدي سورة هود

{كأن لم يَغْنَوْا فيها}؛ أي: كأنهم ما أقاموا في ديارهم ولا تنَّعموا فيها حين أتاهم العذاب. {ألا بعداً لمدين}: إذْ أهلكها اللهُ وأخزاها، {كما بَعِدَتْ ثمودُ}؛ أي: قد اشتركت هاتان القبيلتان في السَّحق والبُعد والهلاك. وشعيبٌ عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته لقومه. وفي قصته من الفوائد والعبر شيء كثير: منها: أن الكفار كما يعاقَبون ويخاطَبون بأصل الإسلام؛ فكذلك بشرائعه وفروعه؛ لأنَّ شعيباً دعا قومه إلى التوحيد وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل الوعيد مرتباً على مجموع ذلك. ومنها: أن نقصَ المكاييل والموازين من كبائر الذُّنوب وتخشى العقوبة العاجلة على من تعاطى ذلك، وأنَّ ذلك من سرقة أموال الناس، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين موجبةً للوعيد؛ فسرِقَتُهم على وجه القهر والغلبة من باب أولى وأحرى. ومنها: أنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فمن بَخَسَ أموال الناس يريد زيادة ماله؛ عوقِبَ بنقيض ذلك، وكان سبباً لزوال الخير الذي عنده من الرزق؛ لقوله: {إني أراكم بخيرٍ}؛ أي: فلا تتسبَّبوا إلى زواله بفعلكم. ومنها: أن على العبد أن يَقْنَعَ بما آتاه الله ويَقْنَعَ بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة، وأنَّ ذلك خيرٌ له؛ لقوله: {بقيَّةُ الله خيرٌ لكم}؛ ففي ذلك من البركة وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرَّمة من المَحْق وضدِّ البركة. ومنها: أن ذلك من لوازم الإيمان وآثاره؛ فإنَّه رتب العمل به على وجود الإيمان، فدلَّ على أنَّه إذا لم يوجد العمل؛ فالإيمان ناقصٌ أو معدومٌ. ومنها: أنَّ الصلاة لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدِّمين، وأنَّها من أفضل الأعمال، حتى إنه متقرِّر عند الكفار فضلها وتقديمها على سائر الأعمال، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي ميزانٌ للإيمان وشرائعه؛ فبإقامتها تكمُلُ أحوال العبدِ، وبعدم إقامتها تختلُّ أحواله الدينيَّة. ومنها: أنَّ المال الذي يرزقُهُ الله الإنسان، وإنْ كان الله قد خوَّله إياه؛ فليس له أن يصنع فيه ما يشاء؛ فإنه أمانةٌ عنده، عليه أن يقيم حقَّ الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق والامتناع من المكاسب التي حرَّمها الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار ومن أشبههم؛ أنَّ أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاؤون ويختارون، سواءٌ وافقَ حكمَ الله أو خالفه. ومنها: أن من تَكْمِلَةِ دعوة الداعي وتمامها: أن يكونَ أول مبادرٍ لما يأمر غيره به وأول منتهٍ عما ينهى غيره عنه؛ كما قال شعيبٌ عليه السلام: {وما أريدُ أنْ أخالِفَكم إلى ما أنهاكم عنه}، ولقوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا لم تقولونَ ما لا تفعلونَ [كَبُرَ مقتًا عند اللهِ أن تقولوا ما لا تفعلون]}. ومنها: أن وظيفة الرسل وسنَّتهم وملَّتهم إرادةُ الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها أو بتحصيل ما يُقْدَرُ عليه منها، وبدفع المفاسدِ وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة. وحقيقة المصلحة هي التي تَصْلُح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينيَّة والدنيويَّة. ومنها: أنَّ مَن قام بما يقدِرُ عليه من الإصلاح؛ لم يكن مَلوماً ولا مَذْموماً في عدم فعله ما لا يقدِرُ عليه؛ فعلى العبدِ أن يُقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدِرُ عليه. ومنها: أنَّ العبد ينبغي له أن لا يتَّكل على نفسه طرفة عين، بل لا يزال مستعيناً بربِّه، متوكِّلاً عليه، سائلاً له التوفيق، وإذا حصل له شيءٌ من التوفيق؛ فلينسبه لِموليهِ ومُسْديه ولا يُعْجَب بنفسه؛ لقوله: {وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلتُ وإليه أُنيبُ}. ومنها: الترهيب بأخذات الأمم، وما جرى عليهم، وأنه ينبغي أنْ تُذْكَرَ القَصصُ التي فيها إيقاعُ العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر؛ كما أنه ينبغي ذِكْرُ ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحثِّ على التقوى. ومنها: أن التائب من الذنب كما يُسمح له عن ذنبه ويُعفى عنه؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّه ويودُّه، ولا عبرة بقول من يقول: إنَّ التائبَ إذا تاب؛ فحسبُه أن يُغْفَرَ له ويعودَ عليه العفو، وأما عَوْدُ الودِّ والحبِّ؛ فإنه لا يعودُ؛ فإنَّ الله قال: {واستغفِروا ربَّكم ثمَّ توبوا إليه إنَّ ربي رحيمٌ ودودٌ}. ومنها: أنَّ الله يدفع عن المؤمنين بأسبابٍ كثيرةٍ قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها، وربما دَفَعَ عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار؛ كما دفع الله عن شعيبٍ رجمَ قومِهِ بسبب رهطِهِ. وأنَّ هذه الروابط التي يحصُلُ بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربَّما تعيَّن ذلك؛ لأنَّ الإصلاح مطلوبٌ على حسب القدرة والإمكان؛ فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهوريَّةً يتمكَّن فيها الأفرادُ والشعوبُ من حقوقهم الدينيَّة والدنيويَّة؛ لكان أولى من استسلامهم لدولةٍ تقضي على حقوقهم الدينيَّة والدنيويَّة، وتحرص على إبادتها وجعلهم عَمَلَةً وخدماً لهم. نعم؛ إنْ أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام؛ فهو المتعيِّن، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة؛ فالمرتبة التي فيها دفعٌ ووقايةٌ للدين والدنيا مقدمة. والله أعلم.