وذلك أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرَّماً في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك أن {راوَدَتْه التي هو في بيتها عن نفسه}؛ أي: هو غلامها وتحت تدبيرها والمسكن واحدٌ يتيسَّر إيقاع الأمر المكروه من غير شعور أحدٍ ولا إحساس بشرٍ. {و} زادتِ المصيبةُ بأن {غَلَّقَتِ الأبوابَ}: وصار المحلُّ خالياً، وهما آمنان من دخول أحدٍ عليهما بسبب تغليق الأبواب. وقد دعتْه إلى نفسها، فقالتْ: {هَيْتَ لك}؛ أي: افعل الأمر المكروه وأقبلْ إليَّ! ومع هذا؛ فهو غريبٌ لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسيرٌ تحت يدها، وهي سيدتُه، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شابٌّ عَزَبٌ، وقد توعدته إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن أو العذاب الأليم، فصبر عن معصية الله مع وجود الداعي القويِّ فيه؛ لأنَّه قد همَّ فيها همًّا تَرَكَهُ لله، وقدَّم مراد الله على مراد النفس الأمَّارة بالسوء، ورأى من برهان ربِّه ـ وهو ما معه من العلم والإيمان الموجب لِتَرْكِ كلِّ ما حرَّم الله ـ ما أوجب له البعد والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة، و {قال معاذَ الله}؛ أي: أعوذ باللَّه أن أفعل هذا الفعلَ القبيح؛ لأنَّه مما يُسْخِطُ الله ويُبْعِدُ عنه، ولأنَّه خيانةٌ في حقِّ سيِّدي الذي أكرم مثواي؛ فلا يَليقُ بي أن أقابِلَه في أهله بأقبح مقابلة، وهذا من أعظم الظُّلم، والظالم لا يفلحُ. والحاصل أنَّه جعل الموانع له من هذا الفعل: تَقْوى الله، ومراعاة حقِّ سيِّده الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظُّلم الذي لا يفلح مَن تعاطاه، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه يقتضي منه امتثالَ الأوامر واجتنابَ الزواجر، والجامعُ لذلك كلِّه أنَّ الله صرف عنه السوءَ والفحشاءَ؛ لأنَّه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم واختصَّهم لنفسه، وأسدى عليهم من النِّعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.