فالعدل الذي أمر الله به يشملُ العدلَ في حقِّه وفي حقِّ عباده؛ فالعدلُ في ذلك أداءُ الحقوق كاملةً موفورةً؛ بأن يؤدِّيَ العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق الماليَّة والبدنيَّة والمركَّبة منهما في حقِّه وحقِّ عباده، ويعامل الخلق بالعدل التامِّ، فيؤدِّي كلُّ والٍ ما عليه تحت ولايتِهِ، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى وولاية القضاء ونواب الخليفة ونواب القاضي. والعدل: هو ما فَرَضَه الله عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعامِلَهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات بإيفاء جميع ما عليك؛ فلا تبخسُ لهم حقًّا، ولا تغشُّهم ولا تخدعُهم وتظلِمُهم؛ فالعدل واجبٌ، والإحسان فضيلةٌ مستحبٌّ، وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم وغير ذلك من أنواع النفع، حتى يدخلَ فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره، وخصَّ الله إيتاء ذي القُربى وإن كان داخلاً في العموم؛ لتأكُّد حقِّهم وتعيُّن صلتهم وبرِّهم والحرص على ذلك، ويدخل في ذلك جميع الأقارب؛ قريبهم وبعيدهم، لكن كلُّ مَن كان أقربَ كان أحقَّ بالبرِّ. وقوله:
{وينهى عن الفحشاءِ}: وهو كلُّ ذنبٍ عظيم استفحشته الشرائعُ والفِطَر؛ كالشركِ بالله والقتل بغير حقٍّ والزِّنا والسرقة والعُجب والكِبْر واحتقار الخلق وغير ذلك من الفواحش، ويدخل في المنكر كلُّ ذنبٍ ومعصيةٍ متعلِّق بحقِّ الله تعالى، وبالبغي كلُّ عدوان على الخلق في الدِّماء والأموال والأعراض. فصارت هذه الآية جامعةً لجميع المأمورات والمنهيَّات، لم يبقَ شيءٌ إلاَّ دخل فيها. فهذه قاعدةٌ ترجع إليها سائر الجزئيَّات؛ فكلُّ مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى؛ فهي مما أمر الله به، وكلُّ مسألةٍ مشتملة على فحشاء أو منكَر أو بغي؛ فهي مما نهى الله عنه، وبها يُعْلَمُ حُسنُ ما أمر الله به وقُبح ما نهى عنه، وبها يُعتبر ما عند الناس من الأقوال، وتردُّ إليها سائر الأحوال؛ فتبارَكَ مَن جعل في كلامِهِ الهدى والشفاء والنور و
الفرقان بين جميع الأشياء، ولهذا قال:
{يعظِكُم}؛ به، أي: بما بيَّنه لكم في كتابه بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ونهيكم عما فيه مضرَّتكم.
{لعلَّكم تذكَّرون}: ما يعظِكُم به فتفهمونه وتعقِلونه؛ فإنَّكم إذا تذكَّرتموه وعقلتموه؛ عملتم بمقتضاه، فسعدتُم سعادةً لا شقاوة معها.