فلما رأته في هذه الحال، وهي معتزلة عن أهلها، منفردة عن الناس، قد اتَّخذت الحجاب عن أعزِّ الناس عليها، وهم أهلها؛ خافت أن يكون رجلاً قد تعرَّضَ لها بسوءٍ وطَمِعَ فيها، فاعتصمتْ بربِّها واستعاذتْ منه فقالتْ له: {إنِّي أعوذُ بالرحمنِ منك}؛ أي: ألتجئ به، وأعتصم برحمته أن تنالَني بسوءٍ، {إن كنتَ تقيًّا}؛ أي: إن كنت تخافُ الله وتعمل بتقواه؛ فاترك التعرُّض لي؛ فجمعت بين الاعتصام بربِّها وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى، وهي في تلك الحالة الخالية والشباب والبعد عن الناس، وهو في ذلك الجمال الباهر والبشريَّة الكاملة السويَّة، ولم ينطق لها بسوء أو يتعرَّض لها، وإنما ذلك خوف منها، وهذا أبلغ ما يكون من العفَّة والبعد عن الشرِّ وأسبابه، وهذه العفَّة خصوصاً مع اجتماع الدواعي، وعدم المانع مِن أفضل الأعمال، ولذلك أثنى الله عليها، فقال: {ومريمَ ابنةَ عمرانَ التي أحصنتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيها من روحنا}، {والتي أحْصَنَتْ فرجَها فنَفَخْنا فيه من روحنا وجَعَلْناها وابنها آيةً للعالمين}؛ فأعاضها الله بعفَّتها ولداً من آيات الله، ورسولاً من رسله.