كان في أول فرض الصيام يحرم على المسلمين الأكل والشرب والجماع في الليل بعد النوم ، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به، {فتاب}؛ الله {عليكم}؛ بأن وسع لكم أمراً كان لولا توسعته موجباً للإثم، {وعفا عنكم}؛ ما سلف من التخون {فالآن}؛ بعد هذه الرخصة والسعة من الله {باشروهن}؛ وطئاً وقبلة ولمساً وغير ذلك {وابتغوا ما كتب الله لكم}؛ أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى، والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح، ومما كتب الله لكم ليلة القدر الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك. {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}؛ هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكًّا في طلوع الفجر فلا بأس عليه، وفيه دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره، أخذاً من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد، وفيه أيضاً دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق {ثم}؛ إذا طلع الفجر {أتموا الصيام}؛ أي: الإمساك عن المفطرات {إلى الليل}؛ وهو غروب الشمس، ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحة عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك استثناه بقوله: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}؛ أي: وأنتم متصفون بذلك. ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى وانقطاعاً إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجدٍ، ويستفاد من تعريف المساجد أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس، وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف. تلك المذكورات وهو تحريم الأكل والشرب والجماع، ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات {حدود الله}؛ التي حدها لعباده ونهاهم عنها فقال: {فلا تقربوها}؛ أبلغ من قوله فلا تفعلوها؛ لأن القربان يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه. والعبد مأمور بترك المحرمات والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها تلك حدود الله فلا تعتدوها فينهى عن مجاوزتها {كذلك}؛ أي: بيَّن الله لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين وأوضحها لهم أكمل إيضاح {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}؛ فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم، على وجه الجهل بأنه محرم ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته؛ لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سبباً للتقوى.