ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثلة: للمنفق ابتغاء وجهه ولم يتبع نفقته منًّا ولا أذى، ولمن أتبعها منًّا وأذى، وللمرائي. فأما الأول فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة لصدورها عن الإيمان و
الإخلاص التام
{ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم}؛ أي: ينفقون وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق فمثل هذا العمل،
{كمثل جنة بربوة}؛ وهو المكان المرتفع لأنه يتبين للرياح والشمس، والماء فيها غزير، فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير، حصل لها طلٌّ كافٍ لطيب منبتها وحسن أرضها وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها، ولهذا
{آتت أكلها ضعفين}؛ أي: متضاعفاً، وهذه الجنة التي على هذا الوصف هي أعلى ما يطلبه الناس، فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل. وأما من أنفق لله ثم أتبع نفقته منًّا وأذى، أو عمل عملاً فأتى بمبطل لذلك العمل فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة، لكن سلط عليها
{إعصار}؛ وهو الريح الشديدة
{فيه نار فاحترقت}؛ وله ذرية ضعفاء وهو ضعيف قد أصابه الكبر، فهذه الحال من أفظع الأحوال، ولهذا صدَّر هذا المثل بقوله:
{أيود أحدكم}؛ إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته، فإن تَلَفَها دفعة واحدة بعد زهاء أشجارها وإيناع ثمارها مصيبة كبرى، ثم حصول هذه الفاجعة وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل وله ذرية ضعفاء لا مساعدة منهم له ومؤنتهم عليه فاجعة أخرى، فصار صاحب هذا المثل الذي عمل لله ثم أبطل عمله بمنافٍ له يشبه حال صاحب الجنة التي جرى عليها ما جرى حين اشتدت ضرورته إليها. المثل الثالث الذي يرائي الناس وليس معه إيمان بالله ولا احتساب لثوابه حيث شبه قلبه بالصفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب يظن الرائي أنه إذا أصابه المطر أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة، ولكنه كالحجر الذي أصابه الوابل الشديد فأذهب ما عليه من التراب وتركه صلداً، وهذا مثل مطابق لقلب المرائي الذي ليس فيه إيمان بل هو قاسٍ لا يلين ولا يخشع، فهذا أعماله ونفقاته لا أصل لها تؤسس عليه ولا غاية لها تنتهي إليه، بل ما عمله فهو باطل لعدم شرطه. والذي قبله بطل بعد وجود الشرط لوجود المانع، والأول مقبول مضاعف لوجود شرطه الذي هو الإيمان و
الإخلاص والثبات وانتفاء الموانع المفسدة. وهذه الأمثال الثلاثة تنطبق على جميع العاملين، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة والأمثال المطابقة
{وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.