ولهذا قال: {يوم تَرَوْنَها تذهلُ كلُّ مرضعةٍ عمَّا أرضعتْ}: مع أنَّها مجبولةٌ على شدَّةِ محبَّتها لولدِها، خصوصاً في هذه الحال التي لا يعيش إلاَّ بها، {وتضعُ كلُّ ذات حَمْل حَمْلَها}: من شدَّة الفزع والهول، {وَتَرى الناسَ سُكارى وما هم بِسُكارى}؛ أي: تحسبُهم أيُّها الرائي لهم سكارى من الخمر، وليسوا سكارى. {ولكنَّ عذابَ الله شديدٌ}: فلذلك أذهَبَ عقولَهم، وفَرَّغَ قلوبَهم، وملأها من الفزع، وبلغت القلوب الحناجرَ، وشخصتِ الأبصار، [و] في ذلك اليوم لا يَجْزي والدٌ عن ولدِهِ، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً، ويومئذٍ يَفِرُّ المرء من أخيه وأمِّه وأبيه وصاحبتِهِ وفصيلتِهِ التي تؤويه، لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، وهناك يعضُّ الظالم على يديهِ يقولُ يا ليتني اتَّخذتُ مع الرسولِ سبيلاً، يا ويلتى ليتني لم أتَّخِذْ فلاناً خليلاً، وتسودُّ حينئذٍ وجوهٌ وتبيضُّ وجوهٌ، وتُنْصَبُ الموازين التي يوزَنُ بها مثاقيلُ الذَّرِّ من الخير والشرِّ، وتُنْشَرُ صحائفُ الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيَّات من صغير وكبيرٍ، ويُنْصَبُ الصراط على متن جهنَّم، وتُزْلَفُ الجنَّةُ للمتقين، وبُرِّزَتِ الجحيمُ للغاوين، إذا رأتْهم من مكانٍ بعيدٍ سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً، وإذا أُلْقوا منها مكاناً ضيِّقاً مقرَّنينَ دَعَوْا هنالك ثُبوراً، ويُقالُ لهم: لا تدعوا اليومَ ثُبوراً واحداً وادْعوا ثُبوراً كثيراً، وإذا نادَوْا ربَّهم ليُخْرِجَهم منها؛ قال: اخسؤوا فيها ولا تكلِّمونِ؛ قد غضب عليهم الربُّ الرحيم، وحَضَرَهُمُ العذابُ الأليم، وأيسوا من كلِّ خير، ووجدوا أعمالهم كلَّها، لم يفقدوا منها نقيراً ولا قِطْميراً. هذا؛ والمتَّقون في روضات الجناتِ يُحْبَرون، وفي أنواع اللَّذَّات يَتَفَكَّهون، وفيما اشتهتْ أنفسهم خالِدون؛ فحقيقٌ بالعاقل الذي يعرِفُ أنَّ كلَّ هذا أمامه أن يُعِدَّ له عدَّتَه، وأن لا يُلْهِيَهُ الأمل فيتركَ العمل، وأنْ تكون تقوى الله شعاره، وخوفُه دثاره، ومحبَّة الله وذكرُه روح أعماله.