يخبر تعالى أنَّه جَعَلَ لكلِّ أمةٍ {مَنْسَكاً}؛ أي: معبداً وعبادةً، قد تختلفُ في بعض الأمور، مع اتِّفاقها على العدل والحكمة؛ كما قال تعالى: {لكلٍّ جَعَلْنا منكم شِرْعةً ومنهاجاً ولو شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُم أمَّةً واحدةً ولكن لِيَبْلُوَكُم فيما آتاكم ... } الآية، {هم ناسِكُوه}؛ أي: عاملون عليه بحسب أحوالهم؛ فلا اعتراض على شريعةٍ من الشرائع، خصوصاً من الأميين أهل الشرك والجهل المبين؛ فإنَّه إذا ثبتت رسالةُ الرسول بأدلتها؛ وجب أن يُتَلَقَّى جميع ما جاء به بالقَبول والتسليم وترك الاعتراض، ولهذا قال: {فلا ينازِعُنَّكَ في الأمر}؛ أي: لا ينازِعُك المكذِّبون لك، ويعترِضون على بعض ما جئتَهم به بعقولهم الفاسدة؛ مثلَ منازعتِهِم في حلِّ الميتةِ بقياسهم الفاسد؛ يقولونَ: تأكلونَ ما قَتَلْتُم ولا تأكلونَ ما قَتَلَ الله؟! وكقولهم: {إنَّما البيعُ مثلُ الرِّبا} ... ونحو ذلك من اعتراضاتهم التي لا يلزم الجواب عن أعيانها، وهم منكرون لأصل الرسالة، وليس فيها مجادلةٌ ومحاجَّةٌ بانفرادها، بل لكلِّ مقام مقال؛ فصاحب هذا الاعتراض المنكِرُ لرسالة الرسول إذا زَعَمَ أنَّه يجادِل ليسترشدَ؛ يُقال له: الكلامُ معك في إثبات الرِّسالة وعدمها، وإلاَّ؛ فالاقتصارُ على هذه دليلٌ أنَّ مقصوده التعنت والتعجيز، ولهذا أمر اللَّهُ رسولَه أن يدعُو إلى ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة ويمضي على ذلك؛ سواءً اعترضَ المعترِضون أم لا، وأنه لا ينبغي أن يَثْنيكَ عن الدَّعوةِ شيءٌ؛ لأنَّك على {هدىً مستقيم}؛ أي: معتدلٍ، موصل للمقصودِ، متضمنٍ علم الحقِّ والعمل به؛ فأنت على ثقةٍ من أمرك ويقينٍ من دينك، فيوجِبُ ذلك لك الصلابة والمضيَّ لما أمرك به ربُّك، ولست على أمرٍ مشكوكٍ فيه أو حديثٍ مفترى، فتقف مع الناس ومع أهوائهم وآرائهم ويوقِفُك اعتراضُهم، ونظير هذا قولُه تعالى: {فتوكَّلْ على اللهِ إنَّك على الحقِّ المبينِ}. مع أنَّ في قوله: {إنَّك لعلى هدىً مستقيم}: إرشاداً لأجوبة المعترضين على جزئيَّات الشرع بالعقل الصحيح؛ فإنَّ الهدى وصفٌ لكلِّ ما جاء به الرسول، والهدى ما تحصُلُ به الهدايةُ في مسائل الأصول والفروع، وهي المسائل التي يُعْرَفُ حسنُها وعدلُها وحكمتُها بالعقل والفطرة السليمة، وهذا يُعْرَفُ بتدبُّر تفاصيل المأمورات والمنهيَّاتِ.