هذا مثلٌ ضَرَبَه الله لقبح عبادة الأوثان وبيانِ نُقصان عقول مَن عَبَدها وضَعْفِ الجميع، فقال: {يا أيها الناسُ}: هذا خطابٌ للمؤمنين والكفَّار؛ المؤمنون يزدادون علماً وبصيرةً، والكافرون تقوم عليهم الحجَّة. {ضُرِبَ مَثَلٌ فاستَمِعوا له}؛ أي: ألقوا إليه أسماعَكم، وافْهَموا ما احتوى عليه، ولا يصادِفْ منكم قلوباً لاهيةً وأسماعاً معرضةً، بل ألْقوا إليه القلوبَ والأسماعَ، وهو هذا: {إنَّ الذين تَدْعونَ من دونِ اللهِ}: شَمِلَ كلَّ ما يُدْعى من دونِ الله، {لَنْ يَخْلُقوا ذباباً}: الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسِّها؛ فليس في قدرتهم خَلْقُ هذا المخلوق الضعيف؛ فما فوقَه من باب أولى، {ولو اجْتَمَعوا له}: بل أبلغُ من ذلك: لو {يَسْلُبْهُمُ الذبابُ شيئاً لا يستَنْقِذوه منه}: وهذا غايةُ ما يصير من العجز. {ضَعُفَ الطالبُ}: الذي هو المعبودُ من دون الله، {والمطلوبُ}: الذي هو الذباب؛ فكل منهما ضعيفٌ، وأضعفُ منهما من يتعلَّق بهذا الضعيف وينزِله منزلةَ ربِّ العالمين؛ فهذا ما قَدَر اللَّه حقَّ قدرِهِ، حيث سوَّى الفقيرَ العاجزَ من جميع الوجوه بالغنيِّ القويِّ من جميع الوجوه، سوَّى مَنْ لا يملِكُ لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً بمن هو النافعُ الضارُّ المعطي المانعُ مالكُ الملكِ والمتصرِّفُ فيه بجميع أنواع التصريف. {إنَّ الله لَقَوِيٌ عزيزٌ}؛ أي: كامل القوة، كامل العزَّة، من كمال قوَّتِهِ وعزَّتِهِ: أنَّ نواصي الخلق بيديه، وأنَّه لا يتحرَّك متحرِّكٌ ولا يسكُنُ ساكنٌ إلاَّ بإرادتِهِ ومشيئتِهِ؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن كمال قوَّتِهِ: أنه يمسِكُ السماواتِ والأرضَ أن تزولا، ومن كمال قوَّته: أنه يبعثُ الخلق كلَّهم، أوَّلهم وآخرهم بصيحةٍ واحدةٍ، ومن كمال قوَّته أنَّه أهلك الجبابرة والأمم العاتية بشيء يسيرٍ وسوطٍ من عذابه.