أي: لم يزلْ إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام يَدْعو قومَه، وهم مستمرُّون على عنادهم؛ إلاَّ أنَّه آمن له بدعوته لوطٌ الذي نبَّأه الله وأرسله إلى قومِهِ كما سيأتي ذِكْره، {وقال}: إبراهيمُ حين رأى أنَّ دعوةَ قومِهِ لا تفيدُهم شيئاً: {إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي}؛ أي: هاجِرٌ أرضَ السوء، ومهاجِرٌ إلى الأرض المباركة، وهي الشام. {إنَّه هو العزيزُ}؛ أي: الذي له القوَّة، وهو يقدِرُ على هدايتكم، ولكنَّه حكيمٌ، ما اقتضت حكمتُه ذلك. ولمَّا اعتزلهم وفارَقَهم وهم بحالِهِم؛ لم يذكرِ الله عنهم أنَّه أهلكهم بعذابٍ، بل ذَكَرَ اعتزالَه إيَّاهم وهجرتَه من بين أظهُرِهم، فأمَّا ما يُذْكَرُ في الإسرائيلياتِ أنَّ الله تعالى فتح على قومِهِ باب البعوض، فشرب دِماءَهم، وأكل لحومَهم، وأتْلَفَهم عن آخرهم؛ فهذا يتوقَّفُ الجزم به على الدليل الشرعيِّ، ولم يوجدْ؛ فلو كان اللَّه استأصَلَهم بالعذاب؛ لَذَكَرَه كما ذَكَرَ إهلاكَ الأمم المكذِّبة، ولكن هل من أسرار ذلك أن الخليل عليه السلام من أرحم الخلق وأفضلهم وأحلمهم وأجلِّهم؛ فلم يَدْعُ على قومِهِ كما دعا غيرُه، ولم يكن اللهُ لِيَجْزِيَ بسببه عذاباً عامًّا؟ ومما يدلُّ على ذلك أنَّه راجع الملائكة في إهلاك قوم لوط، وجادَلَهم، ودافَعَ عنهم، وهم ليسوا قومَه. والله أعلم بالحال.