ولما كان المقصودُ بيانَ الحقِّ؛ ذكر تعالى طريقَه، فقال:
{أوَلَم يكفِهِم}: في علمهم بصدقك وصدق ما جئتَ به،
{أنَّا أنْزَلْنا عليك الكتابَ يُتلى عليهم}: وهذا كلامٌ مختصرٌ جامعٌ فيه من الآيات البينات والدلالات الباهرات شيءٌ كثير؛ فإنَّه كما تقدَّم إتيانُ الرسول به بمجرَّده وهو أميٌّ من أكبر الآيات على صدقه، ثم عجزهم عن معارضته وتحدِّيهم إيَّاه آية أخرى، ثم ظهوره وبروزه جهراً علانيةً يُتلى عليهم، ويقالُ هو من عند الله، قد أظهره الرسول وهو في وقتٍ قلَّ فيه أنصارُه وكَثُرَ مخالفوه وأعداؤه؛ فلم يُخْفِهِ، ولم يَثْنِ ذلك عزمه، بل صرَّح به على رؤوسِ الأشهاد، ونادى به بين الحاضر والباد؛ بأنَّ هذا كلامُ ربي؛ فهل أحدٌ يقدر على معارضته أو ينطِقُ بمباراته أو يستطيع مجاراته؟! ثم إخباره عن قصص الأولين وأنباء السالفين والغيوب المتقدِّمة والمتأخِّرة، مع مطابقته للواقع. ثم هيمنتُهُ على الكتب المتقدِّمة وتصحيحُهُ للصحيح، ونفيُ ما أُدْخِلَ فيها من التحريف والتبديل، ثم هدايته لسواء السبيل في أمره ونهيه؛ فما أمر بشيء فقال العقلُ: ليتَه لم يأمُرْ به، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقلُ: ليته لم ينهَ عنه، بل هو مطابقٌ للعدل والميزان والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول، ثم مسايرةُ إرشاداته وهدايته وأحكامه لكلِّ حال وكلِّ زمان بحيث لا تصلُح الأمورُ إلاَّ به؛ فجميع ذلك يكفي مَنْ أراد تصديقَ الحقِّ، وعَمِلَ على طلب الحقِّ؛ فلا كفى اللهُ من لم يَكْفِهِ القرآن، ولا شَفى الله من لم يَشْفِهِ
الفرقان، ومن اهتدى به واكتفى؛ فإنَّه رحمةٌ له وخيرٌ ؛ فلذلك قال:
{إنَّ في ذلك لرحمةً وذِكْرى لقوم يؤمنونَ}: وذلك لما يُحَصِّلون فيه من العلم الكثير، والخير الغزير، وتزكية القلوب والأرواح، وتطهير العقائد، وتكميل الأخلاق، والفتوحات الإلهية والأسرار الربانية.