سورة آل عمران تفسير السعدي الآية 49

وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ أَنِّی قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱلـلَّــهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱلـلَّــهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿٤٩﴾

تفسير السعدي سورة آل عمران

لله تعالى من عباده أصفياء يصطفيهم ويختارهم ويمن عليهم بالفضائل العالية والنعوت السامية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة والخصائص المتنوعة، فذكر هذه البيوت الكبار وما احتوت عليه من كُمَّل الرجال الذين حازوا أوصاف الكمال، وأن الفضل والخير تسلسل في ذراريهم، وشمل ذكورهم ونساءهم وهذا من أجل مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه {والله سميع عليم}؛ يعلم من يستحق الفضل والتفضيل فيضع فضله حيث اقتضت حكمته. فلما قرر عظمة هذه البيوت ذكر قصة مريم وابنها عيسى - صلى الله عليه وسلم - وكيف تسلسلا من هذه البيوت الفاضلة، وكيف تنقلت بهما الأحوال من ابتداء أمرهما إلى آخره، وأن امرأة عمران قالت متضرعة إلى ربها متقربة إليه بهذه القربة التي يحبها، التي فيها تعظيم بيته وملازمة طاعته: {إني نذرت لك ما في بطني محرراً}؛ أي خادماً لبيت العبادة المشحون بالمتعبدين {فتقبل مني}؛ هذا العمل أي اجعله مؤسساً على الإيمان والإخلاص مثمراً للخير والثواب {إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}؛ كأن في هذا الكلام نوع تضرع منها وانكسار نفس حيث كان نذرها بناءً على أنه يكون ذكراً يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك ما يحصل من أهل القوة، والأنثى بخلاف ذلك، فجبر الله قلبها وتقبل الله نذرها، وصارت هذه الأنثى أكمل وأتم من كثير من الذكور، بل من أكثرهم، وحصل بها من المقاصد أعظم مما يحصل بالذكر، ولهذا قال: {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً}؛ أي: ربيت تربية عجيبة دينية أخلاقية أدبية، كملت بها أحوالها، وصلحت بها أقوالها وأفعالها، ونما فيها كمالها، ويسر الله لها زكريا كافلاً، وهذا من مِنَّةِ الله على العبد أن يجعل من يتولى تربيته من الكاملين المصلحين. ثم إن الله تعالى أكرم مريم وزكريا حيث يسَّر لمريم من الرزق الحاصل بلا كدٍّ ولا تعب، وإنما هو كرامة أكرمها الله به، إذ {كلما دخل عليها زكريا المحراب}؛ وهو محل العبادة وفيه إشارة إلى كثرة صلاتها وملازمتها لمحرابها {وجد عندها رزقاً}؛ هنيئاً معدًّا قال: {أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزقُ من يشاء بغير حساب}؛ فلما رأى زكريا هذه الحال والبر واللطف من الله بها، ذكَّرَه أن يسأل الله تعالى حصول الولد على حين اليأس منه فقال: {رب هَب لي من لَدُنك ذرية طيبة إنك سميعُ الدُّعاء. فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أنَّ الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله}؛ اسمه أي: الكلمة التي مِنَ الله عيسى بن مريم فكانت بشارته بهذا النبي الكريم تتضمن البشارة بعيسى بن مريم والتصديق له والشهادة له بالرسالة، فهذه الكلمة من الله كلمة شريفة اختص الله بها عيسى بن مريم، وإلا فهي من جملة كلماته التي أوجد بها المخلوقات، كما قال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}. وقوله: {وسيداً وحصوراً}؛ أي: هذا المبَشَّر به وهو يحيى سيد من فضلاء الرسل وكرامهم، والحصور قيل هو الذي لا يولد له ولا شهوة له في النساء، وقيل هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة، وهذا أليق المعنيين، {ونبياً من الصالحين}؛ الذين بلغوا في الصلاح ذروته العالية، {قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر}؛ فهذان مانعان فمن أي طريق يا رب يحصل لي ذلك مع ما ينافي ذلك {قال كذلك الله يفعل ما يشاء}؛ فإنه كما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة، فإنه قد يخرق ذلك لأنه الفعَّالُ لما يريد، الذي قد انقادت الأسباب لقدرته، ونفذت فيها مشيئته وإرادته فلا يتعاصى على قدرته شيء من الأسباب ولو بلغت في القوة ما بلغت {قال رب اجعل لي آية}؛ ليحصل السرور والاستبشار وإن كنت يا رب متيقناً ما أخبرتني به ولكن النفس تفرح، ويطمئن القلب إلى مقدمات الرحمة واللطف، {قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً}؛ وفي هذه المدة {اذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار}؛ أول النهار وآخره، فمنع من الكلام في هذه المدة، فكان في هذا مناسبة لحصول الولد من بين الشيخ الكبير والمرأة العاقر، وكونه لا يقدر على مخاطبة الآدميين ولسانه منطلق بذكر الله وتسبيحه آية أخرى، فحينئذ حصل له الفرح والاستبشار، وشكر الله، وأكثر من الذكر والتسبيح بالعشايا والإبكار. وكان هذا المولود من بركات مريم بنت عمران على زكريا، فإن ما منَّ الله به عليها من ذلك الرزق الهني الذي يحصل بغير حساب ذكَّره وهيَّجه على التضرع والسؤال، والله تعالى هو المتفضل بالسبب والمسبب ولكنه يقدر أموراً محبوبة على يد من يحبه ليرفع الله قدره ويُعْظِمَ أجره، ثم عاد تعالى إلى ذكر مريم وأنها بلغت في العبادة والكمال مبلغاً عظيماً فقال تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك}؛ أي: اختارك ووهب لك من الصفات الجليلة والأخلاق الجميلة {وطهرك}؛ من الأخلاق الرذيلة {واصطفاك على نساء العالمين}؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ، فنادتها الملائكة عن أمر الله لها بذلك لتغتبط بنعم الله وتشكر الله، وتقوم بحقوقه، وتشتغل بخدمته، ولهذا قال الملائكة: {يا مريم اقنتي لربك}؛ أي: أكثري من الطاعة والخضوع والخشوع لربك وأديمي ذلك {واركعي مع الراكعين}؛ أي: صلي مع المصلين فقامت بكل ما أمرت به وبرزت وفاقت في كمالها. ولما كانت هذه القصة وغيرها من أكبر الأدلة على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر بها مفصلة محققة لا زيادة فيها ولا نقص، وما ذاك إلا لأنه وحي من الله العزيز الحكيم لا بتعلم من الناس قال تعالى: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم}؛ حيث جاءت بها أمها فاختصموا أيهم يكفلها لأنها بنت إمامهم ومقدمهم، وكلهم يريد الخير والأجر من الله حتى وصلت بهم الخصومة إلى أن اقترعوا عليها فألقوا أقلامهم مقترعين، فأصابت القرعة زكريا رحمة من الله به وبها فأنت ـ يا أيها الرسول ـ لم تحضر تلك الحالة لتعرفها فتقصها على الناس، وإنما الله نبأك بها، وهذا هو المقصود الأعظم من سياق القصص أنه يحصل بها العبرة، وأعظم العبر والاستدلال بها على التوحيد والرسالة والبعث وغيرها من الأصول الكبار {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين}؛ أي: له الوجاهة والجاه العظيم في الدنيا والآخرة عند الخلق، ومع ذلك فهو عند الله من المقربين الذين هم أقرب الخلائق إلى الله وأعلاهم درجة، وهذه بشارة لا يشبهها شيء من البشارات، ومن تمام هذه البشارة أنه {يكلم الناس في المهد}؛ فيكون تكليمه آية من آيات الله ورحمة منه بأمه وبالخلق، وكذلك يكلمهم {كهلاً}؛ أي: في حال كهولته، وهذا تكليم النبوة والدعوة والإرشاد، فكلامه في المهد فيه آيات وبراهين على صدقه ونبوته وبراءة أمِّه مما يظن بها من الظنون السيئة، وكلامه في كهولته فيه نفعه العظيم للخلق وكونه واسطة بينهم وبين ربهم في وحيه وتبليغ دينه وشرعه، ومع ذلك فهو {من الصالحين}؛ الذين أصلح الله قلوبهم بمعرفته وحبه، وألسنتهم بالثناء عليه وذكره وجوارحهم بطاعته وخدمته {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}؛ وهذا هو من الأمور المستغربة {قال كذلك الله يخلق ما يشاء}؛ ليعلم العباد أنه على كل شيء قدير وأنه لا ممانع لإرادته {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون. ويعلمه الكتاب}؛ أي: جنس الكتب السابقة والحكم بين الناس ويعطيه النبوة ويجعله {رسولاً إلى بني إسرائيل}؛ ويؤيده بالآيات البينات والأدلة القاهرة حيث قال: {أني قد جئتكم بآية من ربكم}؛ تدلكم أني رسول الله حقاً، وذلك {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه}؛ وهو ممسوح العينين الذي فقد بصره وعيناه {والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك}؛ المذكور {لآية لكم إن كنتم مؤمنين. ومصدقاً لما بين يدي من التوراة}؛ فأيده الله بجنسين من الآيات والبراهين الخوارق المستغربة التي لا يمكن لغير الأنبياء الإتيان بها، والرسالة والدعوة والدين الذي جاء به وأنه دين التوراة ودين الأنبياء السابقين، وهذا أكبر الأدلة على صدق الصادقين، فإنه لو كان من الكاذبين لخالف ما جاءت به الرسل ولناقضهم في أصولهم وفروعهم، فعلم بذلك أنه رسول الله وأن ما جاء به حق لا ريب فيه، وأيضاً فقوله: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}؛ أي: ولأخفف عنكم بعض الآصار والأغلال {فاتقوا الله وأطيعون. إن الله ربي وربكم فاعبدوه}؛ وهذا ما يدعو إليه جميع الرسل عبادة الله وحده لا شريك له وطاعتهم، وهذا هو الصراط المستقيم الذي من سلكه أوصله إلى جنات النعيم. فحينئذ اختلفت أحزاب بني إسرائيل في عيسى فمنهم من آمن به واتبعه ومنهم من كفر به وكذبه ورمى أمه بالفاحشة كاليهود {فلما أحس عيسى منهم الكفر}؛ والاتفاق على رد دعوته {قال}؛ نادباً لبني إسرائيل على مؤازرته: {من أنصاري إلى الله، قال الحواريون}؛ أي: الأنصار: {نحن أنصار الله آمنَّا بالله واشهد بأنا مسلمون}؛ وهذا من مِنَّةِ الله عليهم وعلى عيسى حيث ألهم هؤلاء الحواريين الإيمان به والانقياد لطاعته والنصرة لرسوله {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول}؛ وهذا التزام تام للإيمان بكل ما أنزل الله ولطاعة رسوله {فاكتبنا مع الشاهدين}؛ لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة ولدينك بالحق والصدق. وأما من أحسَّ عيسى منهم الكفرَ وهم جمهور بني إسرائيل فإنهم {مكروا}؛ بعيسى {ومكر الله}؛ بهم {والله خير الماكرين}؛ فاتفقوا على قتله وصلبه، وشُبِّهَ لهم شَبَهُ عيسى فقبضوا على من شُبِّهَ لهم به وقال الله لعيسى: {إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا}؛ فرفعه الله إليه، وطهره من الذين كفروا، وصلبوا من قتلوه، ظانِّين أنه عيسى، وباؤوا بالإثم العظيم. وسينزل عيسى بن مريم في آخر هذه الأمة حكماً عدلاً يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويتبع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويعلم الكاذبون غرورَهم وخداعَهم وأنهم مغرورون مخدوعون. وقوله: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}؛ المراد بمن اتبعه الطائفة التي آمنت به ونصرهم الله على من انحرف عن دينه، ثم لما جاءت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا هم أتباعه حقًّا فأيدهم ونصرهم على الكفار كلهم، وأظهرهم بالدين الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض}؛ الآية. ولكن حكمة الله عادلة فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين نصره النصر المبين، وأن من ترك أمره ونهيه ونبذ شرعه وتجرأ على معاصيه أن يعاقبه ويسلط عليه الأعداء. والله عزيز حكيم. وقوله: {ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}.