وهذا أيضاً من توسعة الله على رسوله ورحمته به أن أباحَ له تَرْكَ القَسْم بين زوجاتِهِ على وجه الوجوب، وأنَّه إنْ فَعَلَ ذلك؛ فهو تبرعٌ منه، ومع ذلك؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجتهدُ في القَسْم بينهنَّ في كلِّ شيءٍ، ويقول: «اللهم! هذا قَسْمي فيما أملك؛ فلا تَلُمْني فيما لا أملِك» ، فقال هنا: {تُرْجي مَن تشاء منهنَّ}؛ أي: تؤخر من أردتَ من زوجاتك، فلا تؤويها إليك، ولا تبيتُ عندها، {وتُؤوي إليك مَن تشاءُ}؛ أي: تضمُّها وتبيت عندها، {و} مع ذلك؛ لا يتعيَّنُ هذا الأمر. فمن {ابتغيتَ}؛ أي: أن تؤويها، {فلا جُناح عليكَ}: والمعنى أنَّ الخيرة بيدك في ذلك كلِّه. وقال كثيرٌ من المفسِّرين: إنَّ هذا خاصٌّ بالواهبات له أن يُرجي من يشاء ويؤوي من يشاءُ؛ أي: إن شاء؛ قَبِلَ مَنْ وَهَبَتْ نفسها له، وإن شاء؛ لم يقبلها. والله أعلم. ثم بيَّنَ الحكمةَ في ذلك، فقال: {ذلك}؛ أي: التوسعةُ عليك وكونُ الأمر راجعاً إليك وبيدك وكونُ ما جاء منك إليهنَّ تبرعاً منك؛ {أدنى أن تَقَرَّ أعيُنُهُنَّ ولا يحزنَّ ويرضينَ بما آتيتهنَّ كلهنَّ}: لعلمهنَّ أنَّك لم تتركْ واجباً ولم تفرِّطْ في حقٍّ لازم، {والله يعلم ما في قلوبكم}؛ أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبَّة وعند المزاحمة في الحقوق؛ فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول الله؛ لتطمئنَّ قلوبُ زوجاتك، {وكان الله عليماً حليماً}؛ أي: واسع العلم، كثير الحلم، ومِنْ علمِهِ أنْ شَرَعَ لكم ما هو أصلحُ لأموركم وأكثرُ لأجورِكم، ومن حلمِهِ أنْ لم يعاقِبْكُم بما صَدَرَ منكم، وما أصرتْ عليه قلوبُكم من الشرِّ.