أي:
{قل}: يا أيها الرسولُ للمشركين بالله غيرَهُ من المخلوقاتِ التي لا تنفعُ ولا تضرُّ ملزماً لهم بعجزِها ومبيِّناً بطلان عبادتها:
{ادعوا الذينَ زعمتُم من دون الله}؛ أي: زعمتموهم شركاء لله إنْ كان دعاؤكم ينفعُ؛ فإنَّهم قد توفرتْ فيهم أسبابُ العجز وعدم إجابة الدعاء من كلِّ وجه؛ فإنَّهم ليس لهم أدنى ملك، فلا يملكونَ مثقال ذرَّةٍ في السماوات والأرض: على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، ولهذا قال:
{وما لهم}؛ أي: لتلك الآلهة الذين زعمتم
{فيهما}؛ أي: في السماواتِ والأرض
{من شِرْكٍ}؛ أي: لا شركٌ قليل ولا كثيرٌ؛ فليس لهم ملكٌ ولا شركة ملك. بقي أنْ يُقالَ: ومع ذلك؛ فقد يكونون أعواناً للمالك ووزراء له؛ فدعاؤهم يكون نافعاً؛ لأنَّهم بسبب حاجة الملك إليهم يقضون حوائج مَنْ تعلَّق بهم، فنفى تعالى هذه المرتبةَ، فقال:
{وما له}؛ أي: للَّه تعالى الواحد القهار
{منهم}؛ أي: من هؤلاء المعبودين
{من ظهيرٍ}؛ أي: معاونٍ ووزيرٍ يساعده على الملك والتدبير. فلم يبقَ إلاَّ الشفاعةُ، فنفاها بقوله:
{ولا تنفَعُ الشفاعةُ عنده إلا لِمَنْ أذِنَ له}: فهذه أنواع التعلُّقات التي يتعلَّقُ بها المشركون بأندادهم وأوثانهم من البشر والشجر والحجر وغيرهم، قَطَعَها الله وبيَّن بطلانَها تبييناً حاسماً لموادِّ الشرك قاطعاً لأصوله؛ لأنَّ المشرك إنَّما يدعو ويعبدُ غير الله؛ لما يرجو منه من النفع؛ فهذا الرجاء هو الذي أوجبَ له الشركَ؛ فإذا كان من يدعوه غير الله لا مالكاً للنفع والضرِّ ولا شريكاً للمالك ولا عوناً وظهيراً للمالك ولا يقدِرُ أن يَشْفَعَ بدون إذنِ المالك؛ كان هذا الدعاء وهذه العبادة ضلالاً في العقل باطلةً في الشرع، بل ينعكسُ على المشركِ مطلوبُه ومقصودُه؛ فإنَّه يريدُ منها النفع، فبيَّن الله بطلانه وعدمه، وبيَّن في آيات أُخَرَ ضررَها على عابديها ، وأنَّه يوم القيامةِ يكفرُ بعضُهم ببعض ويلعنُ بعضُهم بعضاً ومأواهم النارُ، وإذا حُشِرَ الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين. والعجب أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل بزعمهم أنهم بشرٌ، ورضي أن يَعْبُدَ ويدعو الشجر والحجر، استكبر عن
الإخلاص للملك الرحمن الديان، ورضي بعبادةِ مَنْ ضَرُّهُ أقربُ من نفعِهِ طاعةً لأعدى عدوٍّ له وهو الشيطان! وقوله:
{حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهِم قالوا ماذا قال ربُّكُم قالوا الحقَّ وهو العليُّ الكبيرُ}: يُحتمل أنَّ الضمير في هذا الموضع يعودُ إلى المشركين؛ لأنهم مذكورون في اللفظ، والقاعدة في الضمائرِ أن تعودَ إلى أقرب مذكورٍ، ويكونُ المعنى: إذا كان يوم القيامةِ وفُزِّع عن قلوب المشركين؛ أي: زال الفزع وسُئِلوا حين رجعت إليهم عقولُهم عن حالهم في الدُّنيا وتكذيبهم للحقِّ الذي جاءت به الرسل؛ أنَّهم يقرُّون أنَّ ما هم عليه من الكفر والشرك باطلٌ، وأنَّ ما قال الله وأخبرت به عنه رسلُه هو الحقُّ، فبدا لهم ما كانوا يُخفون من قبلُ، وعلموا أن الحقَّ لله، واعترفوا بذُنوبهم.
{وهو العليُّ}: بذاته فوقَ جميع المخلوقاتِ، وقهرُهُ لهم وعلوُّ قدره بما له من الصفات العظيمةِ جليلة المقدار.
{الكبيرُ}: في ذاته وصفاته، ومن علوِّه أنَّ حكمه تعالى يعلو، وتُذْعِنُ له النفوسُ، حتى نفوس المتكبرينَ والمشركينَ، وهذا المعنى أظهرُ، وهو الذي يدلُّ عليه السياق. ويُحتمل أنَّ الضمير يعود إلى الملائكة، وذلك أنَّ الله تعالى إذا تكلَّم بالوحي؛ سمعتْه الملائكةُ فصُعِقوا وخرُّوا لله سجداً، فيكون أول من يرفعُ رأسهَ جبريلُ، فيكلِّمه الله من وحيه بما أراد؛ فإذا زال الصعقُ عن قلوب الملائكة وزال الفزعُ، فيسأل بعضُهم بعضاً عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه: ماذا قال ربُّكم؟ فيقولُ بعضُهم لبعض: قال الحقَّ: إمَّا إجمالاً لعلمهم أنه لا يقول إلاَّ حقًّا، وإمَّا أن يقولوا: قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه، وذلك من الحقِّ. فيكون المعنى على هذا أنَّ المشركين الذين عبدوا مع الله تلك الآلهة التي وَصَفْنا لكم عجزها ونقصها وعدم نفعها بوجهٍ من الوجوه كيف صَدَفوا وصَرَفوا عن إخلاص العبادة للربِّ العظيم العليِّ الكبير الذي من عظمته وجلاله أنَّ الملائكة الكرام والمقرَّبين من الخلق يبلغ بهم الخضوعُ والصعقُ عند سماع كلامه هذا المبلغ، ويقرُّون كلُّهم لله أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ؛ فما بال هؤلاءِ المشركين استكبروا عن عبادةِ مَنْ هذا شأنُه وعظمةُ ملكِهِ وسلطانِهِ؟! فتعالى العليُّ الكبيرُ عن شركِ المشركين وإفكِهِم وكذِبِهم.