أي: {قل}: يا أيُّها الرسولُ لهؤلاء المكذِّبين المعاندين المتصدِّين لردِّ الحقِّ وتكذيبِهِ والقدح بِمَنْ جاء به: {إنَّما أعِظُكم بواحدةٍ}؛ أي: بخصلةٍ واحدةٍ أشيرُ عليكم بها وأنصحُ لكم في سلوكها، وهي طريقٌ نَصَفٌ، لست أدعوكم بها إلى اتِّباع قولي ولا إلى ترك قولِكُم من دون موجبٍ لذلك، وهي: {أن تقوموا للهِ مثنى وفرادى}؛ أي: تنهضوا بهمَّةٍ ونشاطٍ وقصدٍ لاتِّباع الصواب وإخلاصٍ لله مجتمعين ومتباحِثين في ذلك ومتناظرين وفرادى، كلُّ واحدٍ يخاطِبُ نفسَه بذلك؛ فإذا قُمتم لله مثنى وفرادى؛ استعملتُم فِكْرَكُم وأجَلْتُموه وتدبَّرْتُم أحوال رسولِكُم: هل هو مجنونٌ فيه صفاتُ المجانين من كلامِهِ وهيئتِهِ وصفتِهِ؟ أم هو نبيٌّ صادقٌ منذرٌ لكم ما يضرُّكم مما أمامكم من العذاب الشديد؟ فلو قبلوا هذه الموعظةَ واستعملوها؛ لتبيَّن لهم أكثر من غيرهم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنونٍ؛ لأنَّ هيئاته ليست كهيئات المجانين في خنقهم واختلاجهم ونظرهم، بل هيئتُهُ أحسنُ الهيئات، وحركاتُهُ أجلُّ الحركات، وهو أكمل الخلق أدباً وسكينةً وتواضعاً ووقاراً، لا يكون إلاَّ لأرزن الرجال عقلاً. ثم إذا تأمَّلوا كلامَه الفصيحَ ولفظَه المليحَ وكلماتِهِ التي تملأ القلوب أمناً وإيماناً وتزكِّي النفوس وتطهِّرُ القلوب وتبعثُ على مكارم الأخلاق وتحثُّ على محاسن الشِّيَم وترهِّبُ عن مساوئ الأخلاق ورذائِلِها، إذا تكلَّم؛ رَمَقَتْهُ العيونُ هيبةً وإجلالاً وتعظيماً؛ فهل هذا يشبِهُ هَذَيان المجانين وعربَدَتَهم وكلامَهم الذي يشبِهُ أحوالَهم؟! فكلُّ من تدبَّر أحوالَه وقصده استعلام: هل هو رسولُ الله أم لا؟ سواء تفكَّر وحدَه أم معه غيرُهُ؛ جزم بأنه رسولُ الله حقًّا ونبيُّه صدقاً، خصوصاً المخاطبين، الذي هو صاحبُهم، يعرفون أول أمرِهِ وآخرَه.