فهذا الرجلُ الذي يأتي بذلك: هل افْتَرَى {على الله كَذِباً}: فتجرَّأ عليه وقال ما قال، {أم به جِنَّةٌ}: فلا يُستغرب منه؛ فإنَّ الجنون فنونٌ، وكلُّ هذا منهم على وجه العناد والظُّلم، ولقد علموا أنه أصدقُ خلقِ الله وأعقلُهم، ومِنْ علمِهِم أنَّهم أبدووا وأعادوا في معاداتهم، وبذلوا أنفُسَهم وأموالَهم في صدِّ الناس عنه؛ فلو كان كاذباً مجنوناً؛ لم ينبغ لكم يا أهل العقول غير الزاكيةِ أن تُصْغوا لما قال ولا تحتَفِلوا بدعوتِهِ؛ فإنَّ المجنون لا ينبغي للعاقل أن يُلْفِتَ إليه نَظَرَه أو يبلغَ قولُهُ منه كلَّ مبلغ، ولولا عنادُكم وظلمُكم؛ لَبادَرْتُم لإجابته ولَبَّيْتُم دعوتَه، ولكن ما تُغني الآياتُ والنُّذر عن قوم لا يؤمنون، ولهذا قال تعالى: {بل الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ}، ومنهم الذين قالوا تلك المقالَة {في العذابِ والضَّلال البعيدِ}؛ أي: في الشقاء العظيم والضلال البعيدِ الذي ليس بقريبٍ من الصواب، وأيُّ شقاءٍ وضلال أبلغُ من إنكارِهم لقدرةِ الله على البعثِ، وتكذيِبِهم لرسولهم الذي جاء به، واستهزائِهِم به، وجزمِهِم بأنَّ ما جاؤوا به هو الحقُّ فرأوا الحقَّ باطلاً والباطل والضلال حقًّا وهدى؟!