{وخَلَقْنا لهم}؛ أي: للموجودين من بعدِهم {من مثلِهِ}؛ أي: من مثل ذلك الفلك؛ أي: جنسه {ما يَرْكَبونَ}: به. فذكر نعمتَه على الآباء بِحَمْلِهِم في السفن؛ لأنَّ النعمة عليهم نعمةٌ على الذُّرِّيَّة. وهذا الموضعُ من أشكل المواضع عليَّ في التفسير؛ فإنَّ ما ذَكَرَه كثيرٌ من المفسِّرين من أنَّ المرادَ بالذُّرِّيَّةِ الآباء مما لا يُعْهَدُ في القرآن إطلاقُ الذُّرِّيَّةِ على الآباء، بل فيه من الإبهام وإخراج الكلام عن موضوعِهِ ما يأباه كلامُ ربِّ العالمين وإرادتُه البيانَ والتوضيحَ لعبادِهِ. وثَمَّ احتمالٌ أحسنُ من هذا، وهو أنَّ المرادَ بالذُّرِّيَّةِ الجنسُ، وأنَّهم هم بأنفسهم؛ لأنَّهم هم من ذُرِّيَّةِ بني آدم، ولكن يَنْقُضُ هذا المعنى قوله: {وخَلَقْنا لهم من مثلِهِ ما يَرْكَبون}: إنْ أريدَ: وخَلَقْنا من مثل ذلك الفُلْك؛ أي: لهؤلاء المخاطبين ما يركبونَ من أنواع الفُلْك، فيكونُ ذلك تكريراً للمعنى تأباه فصاحةُ القرآن. فإنْ أريدَ بقوله: {وخَلَقْنا لهم من مثلِهِ ما يركبونَ}: الإبل التي هي سُفُن البرِّ؛ استقامَ المعنى واتَّضح؛ إلاَّ أنَّه يبقى أيضاً أن يكون الكلامُ فيه تشويشٌ؛ فإنَّه لو أُريد هذا المعنى؛ لقال: وآيةٌ لهم أنَّا حَمَلْناهم في الفُلْكِ المَشْحونِ وخَلَقْنا لهم من مثلِهِ ما يركبونَ، فأمَّا أنْ يُقالَ في الأول: حملنا ذريتهم، وفي الثاني: حملناهم؛ فإنَّه لا يظهرُ المعنى إلاَّ أنْ يقالَ: الضميرُ عائدٌ إلى الذُّرِّيَّةِ. والله أعلم بحقيقةِ الحال. فلمَّا وصلتُ في الكتابة إلى هذا الموضع؛ ظهر لي معنى ليس ببعيدٍ من مرادِ الله تعالى، وذلك أنَّ مَنْ عَرَفَ جلالة كتابِ الله وبيانَه التامَّ من كلِّ وجهٍ للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلةِ، وأنَّه يَذْكُرُ من كلِّ معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحوالِهِ، وكانت الفُلْكُ من آياته تعالى ونعمِهِ على عباده من حين أنعم عليهم بتعلُّمها إلى يوم القيامةِ، ولم تزلْ موجودةً في كلِّ زمان إلى زمانِ المواجَهين بالقرآن، فلمَّا خاطبهم الله تعالى بالقرآن، وذَكَرَ حالةَ الفُلك، وعَلِمَ تَعالى أنَّه سيكونُ أعظمُ آياتِ الفلكِ في غير وقتهم وفي غير زمانهم حين يُعَلِّمُهُم صنعةَ الفُلك البحريَّة الشراعيَّة منها والنّارية والجويَّة السابحة في الجوِّ كالطيور ونحوها والمراكبِ البريَّة ممَّا كانت الآيةُ العظمى فيه لم توجَدُ إلاَّ في الذُّرِّيَّةِ؛ نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها، فقال: {وآيةٌ لهم أنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ في الفُلْكِ المشحونِ}؛ أي: المملوء ركباناً وأمتعةً، فحملهم الله تعالى، ونجَّاهم بالأسباب التي علَّمهم اللهُ بها من الغرق.