لمَّا ذَكَرَ تعالى نعيمَهم وتمام سُرورهم بالمآكل والمشارب والأزواج الحسانِ والمجالس الحسنةِ؛ ذَكَرَ تذاكُرَهم فيما بينَهم ومطَارَحَتَهم للأحاديث عن الأمور الماضيةِ وأنَّهم ما زالوا في المحادثة والتساؤل حتى أفضى ذلك بهم إلى أن قال قائلٌ منهم: {إنِّي كان لي قرينٌ}: في الدنيا ينكِرُ البعث ويلومُني على تصديقي به، ويقولُ لي: {أإنَّك لَمِنَ المصدِّقينَ. أإذا مِتْنا وكُنَّا تراباً وعِظاماً أإنَّا لَمَدينونَ}؛ أي: مجازَوْن بأعمالنا؟! أي: كيف تصدِّقُ بهذا الأمر البعيد، الذي في غاية الاستغراب، وهو أنَّنا إذا تَمَزَّقْنا فَصِرْنا تراباً وعظاماً أنَّنا نُبعث ونعادُ ثم نحاسبُ ونُجازى بأعمالنا؛ أي: يقول صاحب الجنة لإخوانه: هذه قصَّتي وهذا خبري أنا وقريني، ما زلتُ أنا مؤمناً مصدِّقاً، وهو ما زال مكذِّباً منكراً للبعث، حتى متنا، ثم بُعِثْنا، فوصلتُ أنا إلى ما تَرَوْن من النعيم الذي أخْبَرَتْنا به الرسل، وهو لا شكَّ أنَّه قد وَصَلَ إلى العذاب. فهل {أنتُم مُطَّلِعونَ}: لننظرَ إليه فنزدادَ غِبْطَةً وسروراً بما نحن فيه، ويكونَ ذلك رأي عين؟! والظاهرُ من حال أهل الجنة وسرورِ بعضِهِم ببعضٍ وموافقة بعضِهِم بعضاً أنَّهم أجابوه لما قال، وذهبوا تبعاً له للاطِّلاع على قرينه. {فاطَّلَع} فرأى قرينَه {في سواء الجحيم}؛ أي: في وسط العذاب وغمراتِهِ. والعذابُ قد أحاطَ به، فقال له لائماً على حالِهِ وشاكراً لله على نعمتِهِ أنْ نجَّاه من كيدِهِ: {تاللهِ إنْ كِدْتَ لَتُرْدينِ}؛ أي: تهلكني بسبب ما أدخلتَ عليَّ من الشُّبه بزعمك، {ولولا نعمةُ ربِّي}: على أن ثبتني على الإسلام {لكنتُ من المُحْضَرينَ}: في العذاب معك. {أفَما نحنُ بِمَيِّتينَ. إلاَّ مَوْتَتَنا الأولى وما نحنُ بِمُعَذَّبينَ}؟ أي: يقوله المؤمن مبتهجاً بنعمة الله على أهل الجنة بالخلودِ الدائم والسلامة من العذاب. استفهامٌ بمعنى الإثبات والتقرير. وقوله: {فأقبل بعضُهُم على بعضٍ يتساءلون}، وحَذَفَ المعمولَ، والمقامُ مقامُ لذَّةٍ وسرور، فدلَّ ذلك على أنهم يتساءلون بكلِّ ما يتلذَّذون بالتحدُّث به والمسائل التي وقع فيها النزاعُ والإشكالُ، ومن المعلوم أنَّ لَذَّةَ أهل العلم بالتساؤل عن العلم والبحث عنه فوق اللَّذَّاتِ الجاريةِ في أحاديث الدُّنيا؛ فلهم من هذا النوع النصيبُ الوافر، ويحصُلُ لهم من انكشافِ الحقائق العلميَّةِ في الجنة ما لا يمكنُ التعبيرُ عنه.