فقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم}؛ أي: أولادكم يا معشر الوالدين عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم لتقوموا بمصالحهم الدينيَّة والدنيويَّة، فتعلِّمونهم وتؤدِّبونهم وتكفُّونهم عن المفاسد وتأمرونَهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام؛ كما قال تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وَقودها الناس والحجارةُ}؛ فالأولاد عند والِديهم موصىً بهم؛ فإمَّا أن يقوموا بتلك الوصية؛ فلهم جزيل الثواب، وإمَّا أن يضيِّعوها؛ فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. وهذا مما يدلُّ على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالِدينِ، حيث أوصى الوالِدينِ مع كمال شفقتهم عليهم. ثم ذكر كيفية إرثهم، فقال: {للذكر مثل حظ الأنثيين}؛ أي: الأولاد للصلب والأولاد للابن، للذكر مثل حظِّ الأنثيين إن لم يكن معهم صاحبُ فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك، وقد أجمع العلماء على ذلك، وأنه مع وجود أولاد الصلب؛ فالميراث لهم، وليس لأولاد الابن شيء؛ حيث كان أولاد الصلب ذكوراً وإناثاً. هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور. وسيأتي حكمها، وانفراد الإناث. وقد ذكره بقوله: {فإن كنَّ نساءً فوق اثنتين}؛ أي: بنات صلب أو بنات ابن ثلاثاً فأكثر؛ {فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة}؛ أي: بنتاً أو بنت ابن؛ {فلها النصف}. وهذا إجماع. بقي أن يُقال: من أين يُستفاد أنَّ للابنتين الثِّنْتَيْنِ الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب: أنه يستفاد من قوله: {إن كانت واحدةً فلها النصف}؛ فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة؛ انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضاً؛ فقوله: {للذكر مثل حظ الأنثيين}: إذا خلَّفَ ابناً وبنتاً؛ فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدلَّ ذلك على أن للبنتين الثلثين. وأيضاً؛ فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها وهو أزيد ضرراً عليها من أختها، فأخْذُها له مع أختها من باب أولى وأحرى. وأيضاً؛ فإن قوله تعالى في الأختين: {فإن كانتا اثنتينِ فلهما الثلثانِ مما ترك}: نصٌّ في الأختين الثنتين؛ فإذا كان الأختان الثنتان مع بعدهما يأخذان الثلثين؛ فالابنتان مع قربهما من باب أولى وأحرى. وقد أعطى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنتي سعد الثلثين؛ كما في «الصحيح». بقي أن يُقال: فما الفائدة في قوله: {فوق اثنتين}؟ قيل: الفائدة في ذلك والله أعلم: أنه لِيُعْلَمَ أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين، بل من الثنتين فصاعداً. ودلت الآية الكريمة أنه إذا وُجِدَ بنتُ صلبٍ واحدة وبنتُ ابن أو بناتُ ابن؛ فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملةَ الثلثين. ومثل ذلك بنت الابن مع بنات الابن اللاتي أَنْزَلُ منها. وتدلُّ الآية أنه متى استغرقَ البناتُ أو بناتُ الابن الثلثين: أنه يسقُطُ من دونهنَّ من بنات الابن؛ لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم؛ فلو لم يسقطن؛ لزم من ذلك أن يفرضَ لهنَّ أزيدُ من الثلثين، وهو خلاف النص. وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء، ولله الحمد. ودل قوله: {مما ترك}: أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته، وحتى الديون التي في الذمة. ثم ذكر ميراث الأبوين، فقال: {ولأبويه}؛ أي: أبوه وأمه، {لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد}؛ أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكراً كان أو أنثى واحداً أو متعدداً: فأما الأم؛ فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد، وأما الأب؛ فمع الذكور منهم لا يستحق أزيد من السدس؛ فإن كان الولد أنثى أو إناثاً، ولم يبق بعد الفرض شيء؛ كأبوين وابنتين؛ لم يبق له تعصيب، وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء؛ أخذ الأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً؛ لأننا ألحقنا الفروض بأهلها؛ فما بقي؛ فلأولى رجل ذكر، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما. {فإن لم يكن له ولدٌ وورثه أبواه فلأمه الثلث}؛ أي: والباقي للأب؛ لأنه أضاف المال إلى الأب والأم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأم، فدل ذلك على أن الباقي للأب، وعُلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرضَ له، بل يرث تعصيباً المالَ كلَّه، أو ما أبقت الفروض. لكن لو وُجِدَ مع الأبوين أحدُ الزوجين ـ ويعبَّر عنهما بالعمريَّتين ـ؛ فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأم ثلث الباقي والأب الباقي، وقد دل على ذلك قوله: {وورثه أبواه فلأمه الثلث}؛ أي: ثلث ما ورثه الأبوان، وهو في هاتين الصورتين: إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب، فلم تدل الآية على إرث الأم ثلث المال كاملاً مع عدم الأولاد حتى يقالَ: إنَّ هاتين الصورتين قد اسْتُثنِيتا من هذا. ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين. ولأنَّا لو أعطينا الأم ثلث المال؛ لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصف السدس، وهذا لا نظير له؛ فإن المعهود مساواتها للأب أو أخذه ضعف ما تأخذه الأم. {فإن كان له إخوة فلأمه السدس}: أشقاء أو لأب أو لأم ذكوراً كانوا أو إناثاً وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد. لكن قد يُقال: ليس ظاهر قوله: {فإن كان له إخوة}: شاملاً لغير الوارثين، بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف؛ فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفَّر لهم شيء من المال، وهو معدوم. والله أعلم. ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر. ويشكل على ذلك إتيان لفظ الإخوة بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين، وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان؛ كما في قوله تعالى عن داود وسليمان: {وكُنَّا لِحُكْمِهم شاهدين}. وقال في الإخوة للأم: {وإن كان رجل يورَث كَلالةً أو امرأةٌ وله أخ أو أختٌ فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}: فأطلق لفظ الجمع، والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع. فعلى هذا؛ لو خلَّف أمًّا وأباً وإخوةً؛ كان للأم السدس والباقي للأب، فحجبوها عن الثلث مع حجب الأب إياهم؛ إلا على الاحتمال الآخر؛ فإن للأم الثلث والباقي للأب. ثم قال تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}؛ أي: هذه الفروض والأنصباء والمواريث، إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته؛ فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة. وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها لكون إخراجها شاقًّا على الورثة، وإلاَّ؛ فالديون مقدَّمة عليها، وتكون من رأس المال، وأما الوصية؛ فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث، وأما غير ذلك؛ فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة. قال تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً}؛ فلو رُدَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم؛ لحصل من الضرر ما الله به عليم؛ لِنَقْصِ العقولِ وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن في كل زمان ومكان، فلا يدرون أي الأولاد أو الوالدين أنفع لهم وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. {فريضة من الله إنَّ الله كان عليماً حكيماً}؛ أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علماً وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير، لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال.