يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التَّدبير وتصرُّفه بأنواع التصريف قدراً وشرعاً؛ فتصرُّفه الشرعي أن وصَّى الأوَّلين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاَّحقة بالتَّقوى المتضمِّنة للأمر والنَّهي وتشريع الأحكام والمجازاة لمن قام بهذه الوصيَّة بالثواب والمعاقبة لمن أهملها وضيَّعها بأليم العذاب، ولهذا قال: {وإن تَكْفُروا}: بأن تتركوا تقوى الله وتشركوا بالله ما لم ينزِّل به عليكم سلطاناً؛ فإنكم لا تضرُّون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرُّون الله شيئاً، ولا تنقصون ملكَه، وله عبيدٌ خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له خاضعون لأمره، ولهذا رتَّب على ذلك قوله: {وإن تَكْفُروا فإنَّ لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيًّا حميداً}: له الجود الكامل والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته التي لا يَنْقُصُها الإنفاق ولا يَغيضها نفقةٌ، سحاء الليل والنهار، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم وآخرهم، فسأل كلُّ واحد منهم ما بلغت أمانيه، ما نَقَصَ من ملكه شيئاً، ذلك بأنه جوادٌ واجدٌ ماجدٌ، عطاؤه كلامٌ، وعذابه كلامٌ، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقولَ له كُن فيكون، ومن تمام غِناه أنَّه كامل الأوصاف؛ إذ لو كان فيه نقصٌ بوجه من الوجوه؛ لكان فيه نوعُ افتقارٍ إلى ذلك الكمال، بل له كلُّ صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها. ومن تمام غِناه أنَّه لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولداً ولا شريكاً في ملكه ولا ظهيراً ولا معاوناً له على شيء من تدابير ملكِهِ، ومن كمال غناه افتقار العالم العلويِّ والسفليِّ في جميع أحوالهم وشؤونهم إليه وسؤالهم إيّاه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة، وأغناهم وأقناهم ومنَّ عليهم بلطفه وهداهم. وأما الحميدُ؛ فهو من أسماء الله تعالى الجليلة، الدال على أنه هو المستحقُّ لكلِّ حمدٍ ومحبةٍ وثناء وإكرام، وذلك لما اتَّصف به من صفات الحمد التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال؛ فهو المحمود على كلِّ حال. وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين: الغنيّ الحميد؛ فإنه غنيٌّ محمودٌ؛ فله كمالٌ من غناه وكمالٌ من حمده وكمالٌ من اقتران أحدهما بالآخر، ثم كرَّر إحاطة ملكه لما في السماوات و [ما في] الأرض، وأنَّه على كلِّ شيء وكيل؛ أي: عالم قائم بتدبير الأشياء على وجه الحكمة؛ فإنَّ ذلك من تمام الوكالة؛ فإنَّ الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيلٌ عليه، والقوَّة والقدرة على تنفيذه وتدبيره، وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة؛ فما نقص من ذلك؛ فهو لنقص الوكيل، والله تعالى منزَّه عن كلِّ نقص.