سورة النساء تفسير السعدي الآية 37

ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَیَكۡتُمُونَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا ﴿٣٧﴾

تفسير السعدي سورة النساء

يأمر تعالى عباده بعبادتِهِ وحدَه لا شريك له، وهو الدخول تحت رقِّ عبوديَّتِهِ والانقياد لأوامره ونواهيه محبةً وذلًّا وإخلاصاً له في جميع العبادات الظاهرة والباطنة، وينهى عن الشرك به شيئاً، لا شركاً أصغر، ولا أكبر، لا مَلَكاً، ولا نبيًّا، ولا وليًّا، ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملِكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل الواجبُ المتعيِّن إخلاصُ العبادة لمن له الكمالُ المطلق من جميع الوجوه، وله التدبير الكامل الذي لا يَشْرَكُه ولا يعينُهُ عليه أحدٌ. ثم بعد ما أمر بعبادتِهِ والقيام بحقِّه أمر بالقيام بحقوق العبادِ الأقرب فالأقرب، فقال: {وبالوالدين إحساناً}؛ أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل، بطاعةِ أمرِهما واجتنابِ نهيِهِما، والإنفاق عليهما، وإكرام من له تعلُّق بهما، وصلة الرحم التي لا رحمَ لك إلاَّ بهما. وللإحسان ضدَّانِ الإساءةُ وعدمُ الإحسان، وكلاهما منهيٌّ عنه. {وبذي القربى} أيضاً إحساناً، ويشمل ذلك جميع الأقارب، قَرُبوا أو بَعُدوا، بأن يُحْسِنَ إليهم بالقول والفعل، وأنْ لا يقطعَ برحمه بقولِهِ أو فعلِهِ. {واليتامى}؛ أي: الذين فُقِدَ آباؤهم وهم صغارٌ، فلهم حقٌّ على المسلمين، سواءٌ كانوا أقارب أو غيرهم، بكفالتهم وبِرِّهم وجبرِ خواطرِهم وتأديبِهم وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم. {والمساكين}: وهم الذين أسكنتهم الحاجةُ والفقرُ، فلم يحصُلوا على كفايتهم ولا كفاية من يمونون، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم بسدِّ خلَّتهم وبدفع فاقتهم والحضِّ على ذلك والقيام بما يمكن منه. {والجار ذي القربى}؛ أي: الجار القريب الذي له حقَّان؛ حقُّ الجوار وحقُّ القرابة؛ فله على جارِهِ حقٌّ وإحسانٌ راجعٌ إلى العرف. وكذلك {الجار الجُنُب}؛ أي: الذي ليس له قرابةٌ، وكلَّما كان الجارُ أقربَ باباً؛ كان آكد حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهدَ جارَه بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيَّتِهِ بقول أو فعل. {والصاحب بالجنب}: قيل: الرفيقُ في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل: الصاحب مطلقاً، ولعله أولى؛ فإنه يَشْمَلُ الصاحبَ في الحضر والسفر ويَشْمَلُ الزوجةَ؛ فعلى الصاحب لصاحبه حقٌّ زائد على مجرَّد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له، والوفاء معه في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن يحبَّ له ما يحبُّ لنفسه، ويكره له مايكره لنفسه، وكلَّما زادت الصحبة؛ تأكد الحق وزاد. {وابن السبيل}: وهو الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج؛ فله حقٌّ على المسلمين لشدَّة حاجتِهِ وكونِهِ في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده وبإكرامه وتأنيسه. {وما ملكت أيمانكم}؛ أي: من الآدميين والبهائم، بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشقُّ عليهم، وإعانتُهم على ما تحمَّلوه وتأديبهم لما فيه مصلحتُهم؛ فَمَنْ قام بهذه المأمورات؛ فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد الله، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحقُّ الثواب الجزيل والثناء الجميل، ومن لم يقم بذلك؛ فإنه عبد معرِضٌ عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع للخلق، بل هو متكبِّر على عباد الله، معجبٌ بنفسه، فخورٌ بقوله. ولهذا قال: {إنَّ الله لا يحبُّ من كان مختالاً}؛ أي: معجَباً بنفسه متكبراً على الخلق، {فخوراً}؛ يثني على نفسه ويمدحُها على وجه الفخر والبطرِ على عباد الله؛ فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعُهم من القيام بالحقوق، ولهذا ذمَّهم بقوله: {الذين يبخلون}؛ أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة، {ويأمرون الناس بالبُخل}: بأقوالهم وأفعالهم، {ويكتُمون ما آتاهمُ الله من فضلِهِ}؛ أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشِدُ به الجاهلون، فيكتُمونه عنهم، ويُظْهِرون لهم من الباطل ما يَحولُ بينَهم وبين الحقِّ، فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين؛ فلهذا قال تعالى: {وأعتَدْنا للكافرين عذاباً مهيناً}؛ أي: كما تكبَّروا على عباد الله، ومنعوا حقوقه، وتسبَّبوا في منع غيرِهم من البخل وعدم الاهتداء؛ أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم؛ فعياذاً بك اللهمَّ من كلِّ سوء.