ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يَقْرَبوا الصلاة وهم سُكارى حتى يعلَموا ما يقولونَ، وهذا شاملٌ لِقُرْبانِ مواضع الصلاة؛ كالمسجد؛ فإنه لا يمكَّنُ السكرانُ من دخولِهِ، وشاملٌ لنفس الصلاة؛ فإنه لا يجوز للسكران صلاةٌ ولا عبادةٌ لاختلاط عقلِهِ وعدم علمِهِ بما يقول، ولهذا حدَّد تعالى ذلك وغيَّاه إلى وجود العلم بما يقول السكران. وهذه الآية الكريمة منسوخةٌ بتحريم الخمر مطلقاً؛ فإنَّ الخمر في أول الأمر كان غير محرَّم، ثم إنَّ الله تعالى عَرَّضَ لعبادِهِ بتحريمِهِ بقوله: {يَسألونَكَ عن الخمرِ والمَيْسِرِ قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومَنافعُ للنَّاسِ وإثْمُهُما أكبرُ مِنْ نَفعِهِما}، ثم إنَّه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضورِ الصلاة كما في هذه الآية، ثم إنه تعالى حرَّمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: {يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخمرُ والمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلام رِجسٌ مِن عملِ الشيطانِ فاجتنبوهُ} الآية. ومع هذا؛ فإنه يشتدُّ تحريمه وقتَ حضور الصلاة؛ لتضمُّنه هذه المفسدة العظيمة بعدم حصول مقصود الصلاة الذي هو روحها ولبُّها، وهو الخشوع وحضور القلب؛ فإنَّ الخمر يُسْكِرُ القلبَ، ويصدُّ عن ذِكْرِ الله وعن الصلاة. ويؤخَذُ من المعنى منعُ الدُّخول في الصلاة في حال النُّعاس المفرط الذي لا يشعُرُ صاحبه بما يقولُ ويفعل، بل لعلَّ فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطعَ عنه كلَّ شاغل يَشْغَلُ فكره؛ كمدافعةِ الأخبثين والتَّوْق لطعام ونحوِهِ؛ كما ورد في ذلك الحديث الصحيح. ثم قال: {ولا جُنُباً إلا عابري سبيل}؛ أي: لا تقربوا الصلاة حالة كونِ أحدِكم جُنباً إلاَّ في هذه الحال، وهو عابرُ السبيل؛ أي: تمرُّون في المسجد ولا تمكُثون فيه. {حتَّى تغتَسِلوا}؛ أي: فإذا اغتسلتم؛ فهو غاية المنع من قربانِ الصلاة للجُنُبِ، فيحلُّ للجُنُبِ المرورُ في المسجد فقط. {وإن كنتُم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستُمُ النساءَ فلم تجِدوا ماءً فتيمَّموا}: فأباح التيمُّم للمريض مطلقاً مع وجود الماء وعدمِهِ، والعلَّة المرضُ الذي يشقُّ مع استعمال الماء، وكذلك السفر؛ فإنه مَظِنَّة فقد الماء؛ فإذا فقده المسافر، أو وجد ما يتعلَّق بحاجته من شرب ونحوه؛ جاز له التيمُّم، وكذلك إذا أحدث الإنسان ببول أو غائطٍ أو ملامسة النساء؛ فإنه يُباح له التيمُّم إذا لم يجد الماء حضراً وسفراً؛ كما يدلُّ على ذلك عموم الآية. والحاصل أنَّ الله تعالى أباح التيمُّم في حالتين: حال عدم الماء، وهذا مطلقاً في الحضر والسفر. وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه. واختلف المفسِّرون في معنى قوله: {أو لامستُمُ النساءَ}: هل المرادُ بذلك الجِماع؟ فتكونُ الآية نصًّا في جواز التيمُّم للجُنُب كما تكاثرت بذلك الأحاديث الصحيحة ، أو المراد بذلك مجردُ اللمس باليد، ويقيَّد ذلك بما إذا كان مَظِنَّة خروج المذي، وهو المس الذي يكون لشهوةٍ، فتكون الآيةُ دالةً على نقض الوضوء بذلك. واستدلَّ الفقهاء بقوله: {فلم تجدوا ماء}: بوجوب طَلَبِ الماء عند دخول الوقت؛ قالوا: لأنه لا يُقال: لم يجد لِمَنْ لم يطلب، بل لا يكون ذلك إلا بعد الطلب. واستدلَّ بذلك أيضاً على أن الماء المتغيِّرَ بشيء من الطاهرات يجوز ـ بل يتعيَّن ـ التطهُّر به لدخولِهِ في قوله: {فلم تجدوا ماءً}، وهذا ماء. ونوزع في ذلك بأنَّه ماء غير مطلق، وفي ذلك نظر. وفي هذه [الآية] الكريمة: مشروعيَّة هذا الحكم العظيم الذي امتنَّ به الله على هذه الأمة، وهو مشروعية التيمُّم، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولله الحمد. وأنَّ التيمُّم يكون بالصَّعيد الطيب، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض، سواء كان له غبار أم لا، ويُحتمل أن يختصَّ ذلك بذي الغبار؛ لأن الله قال: {فامْسَحوا بوجوهِكم وأيديكم} منه، وما لا غبار له لا يُمْسَحُ به. وقوله: {فامسحوا بوجوهِكم وأيديكم} منه: هذا محل المسح في التيمُّم: الوجه جميعه واليدين إلى الكوعين؛ كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ويستحبُّ أن يكون ذلك بضربةٍ واحدةٍ؛ كما دلَّ على ذلك حديث عمار ، وفيه أنَّ تيمُّم الجُنُب كتيمُّم غيره بالوجه واليدين. فائدة: اعلم أن قواعد الطبِّ تدور على ثلاث قواعدَ: حفظ الصحة عن المؤذيات، والاستفراغ منها، والحميةُ عنها. وقد نبَّه تعالى عليها في كتابه العزيز: أمَّا حفظ الصحة والحمية عن المؤذي؛ فقد أمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف في ذلك، وأباح للمسافر والمريض الفطر حفظاً لصحَّتهما باستعمال ما يُصْلِحُ البدن على وجه العدل، وحماية للمريض عما يضرُّه. وأما استفراغُ المؤذي؛ فقد أباح تعالى للمحرم المتأذِّي برأسه أن يحلِقَهُ لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه؛ ففيه تنبيهٌ على استفراغ ما هو أولى منها من البول والغائط والقيء والمنيِّ والدم وغير ذلك. نبه على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى. وفي الآية وجوبُ تعميم مسح الوجه واليدين، وأنَّه يجوز التيمُّم، ولو لم يضق الوقت، وأنه لا يخاطَب بطلب الماء إلا بعد وجود سبب الوجوب. والله أعلم. ثمَّ ختم الآية بقوله: {إنَّ اللهَ كانَ عفُوًّا غَفوراً}؛ أي: كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين بتيسير ما أمرهم به وتسهيلِهِ غايةَ التسهيل بحيثُ لا يَشُقُّ على العبد امتثالُه فيحرج بذلك، ومن عفوه ومغفرته أنْ رَحِمَ هذه الأمة بشرع طهارة التُّراب بدل الماء عند تعذُّر استعماله، ومن عفوِهِ ومغفرتِهِ أن فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهُم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم، ومن عفوه ومغفرته أنَّ المؤمن لو أتاه بقُراب الأرض خطايا ثم لَقِيَهُ لا يشرك به شيئاً؛ لأتاه بقرابها مغفرةً.