هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات؛ فإنَّ الملائكة الذين يقبضون روحه يوبِّخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: {فيم كنتُم}؛ أي: على أيِّ حال كنتم؟ وبأيِّ شيءٍ تميَّزْتم عن المشركين؟ بل كثَّرْتُم سوادَهم، وربَّما ظاهرتُموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير والجهادُ مع رسولِهِ والكون مع المسلمين ومعاونتهم على أعدائهم. {قالوا كُنَّا مستضعفين في الأرض}؛ أي: ضعفاء مقهورين مظلومين ليس لنا قدرة على الهجرة، وهم غير صادقين في ذلك؛ لأنَّ الله وَبَّخَهم وتوعَّدَهم، ولا يكلِّف الله نفساً إلاَّ وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقةً، ولهذا قالت لهم الملائكة: {ألم تَكُنْ أرضُ الله واسعةً فتهاجِروا فيها}؟ وهذا استفهام تقرير؛ أي: قد تقرَّر عند كلِّ أحدٍ أنَّ أرض الله واسعةٌ؛ فحيثما كان العبد في محلٍّ لا يتمكن فيه من إظهار دينه؛ فإنَّ له متَّسعاً وفسحةً من الأرض يتمكَّن فيها من عبادة الله؛ كما قال تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إنَّ أرضي واسعةٌ فإيَّايَ فاعبُدُونِ}. قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: {فأولئك مأواهم جهنَّمُ وساءت مصيراً}. وهذا كما تقدَّم فيه ذِكْرُ بيان السبب الموجب؛ فقد يترتَّب عليه مقتضاهُ مع اجتماع شروطِهِ وانتفاءِ موانعِهِ، وقد يمنعُ من ذلك مانع. وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من أكبر الكبائر. وفي الآية دليلٌ على أنَّ كلَّ من تُوُفِّي فقد استكمل واستوفى ما قُدِّرَ له من الرِّزْق والأجل والعمل، وذلك مأخوذٌ من لفظ التوفِّي؛ فإنه يدلُّ على ذلك؛ لأنَّه لو بقي عليه شيءٌ من ذلك؛ لم يكن متوفياً. وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم؛ لأنَّ الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم وموافقته لمحلِّه.