لما ذكر تعالى أنَّ حججه واضحةٌ بينةٌ بحيث استجاب لها كلُّ مَن فيه خيرٌ؛ ذكر أصلَها وقاعدتَها، بل جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد ترجِعُ إليه، فقال: {الله الذي أنزل الكتابَ بالحقِّ والميزانِ}: فالكتاب هو هذا القرآنُ العظيم الذي نزل بالحقِّ، واشتمل على الحقِّ والصدق واليقين، وكلُّه آياتٌ بيناتٌ وأدلَّة واضحاتٌ على جميع المطالب الإلهيَّة والعقائد الدينيَّة، فجاء بأحسن المسائل وأوضح الدَّلائل. وأما الميزان؛ فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح؛ فكلُّ الدلائل العقليَّة من الآيات الأفقيَّة والنفسيَّة والاعتبارات الشرعيَّة والمناسبات والعلل والأحكام والحِكَم داخلةٌ في الميزان الذي أنزله الله تعالى ووضعه بين عبادِهِ لِيَزِنوا به ما أثبته وما نفاه من الأمور، ويعرفوا به صدقَ ما أخبر به وأخبرتْ به رسلُه. فما خرج عن هذين الأمرين ـ عن الكتاب والميزان ـ مما قيل: إنَّه حجةٌ أو برهانٌ أو دليلٌ أو نحو ذلك من العبارات؛ فإنَّه باطلٌ متناقضٌ قد فسدت أصولُه وانهدمت مبانيه وفروعه، يعرِفُ ذلك مَنْ خَبَرَ المسائل ومآخِذَها، وعرف التمييز بين راجح الأدلَّة من مرجوحِها، والفرق بين الحجج والشُّبه. وأما من اغترَّ بالعبارات المزخرفة والألفاظ المموِّهة ولم تنفذْ بصيرتُه إلى المعنى المراد؛ فإنَّه ليس من أهل هذا الشأن، ولا من فرسانِ هذا الميدانِ؛ فوِفاقه وخلافُه سيان. ثم قال تعالى مخوِّفاً للمستعجلين لقيام الساعةِ المنكرينَ لها، فقال: {وما يدريكَ لعلَّ الساعةَ قريبٌ}؛ أي: ليس بمعلوم بُعدها ولا متى تقومُ؛ فهي في كلِّ وقتٍ متوقَّع وقوعُها مخوفٌ وجبتُها.