سورة المائدة تفسير السعدي الآية 118

إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴿١١٨﴾

تفسير السعدي سورة المائدة

: واذْكُرْ نعمتي عليك إذ يسرتُ لك أتباعاً وأعواناً، فأوحيتُ إلى الحواريين؛ أي: ألهمتُهم وأوزعتُ قلوبَهم الإيمان بي وبرسولي، أو أوحيت إليهم على لسانك؛ أي: أمرتُهم بالوحي الذي جاءك من عند الله، فأجابوا لذلك وانقادوا وقالوا: {آمنَّا واشهدْ بأنَّنا مسلمونَ}، فجمعوا بين الإسلام الظاهر والانقياد بالأعمال الصالحة والإيمان الباطن المخرِج لصاحبِهِ من النفاق ومن ضَعْف الإيمان. والحواريون هم الأنصارُ؛ كما قال تعالى. كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: {مَنْ أنصاري إلى الله قال الحواريونَ نحن أنصار الله}. {إذ قال الحواريونَ يا عيسى ابن مريم هل يستطيعُ ربُّك أن ينزِّلَ علينا مائدةً من السماء}؛ أي: مائدة فيها طعامٌ، وهذا ليس منهم عن شكٍّ في قدرةِ الله واستطاعتِهِ على ذلك وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم، ولما كان سؤالُ آياتِ الاقتراح منافياً للانقياد للحقِّ وكان هذا الكلام الصادرُ من الحواريين ربَّما أوْهَمَ ذلك؛ وعَظَهم عيسى عليه السلام فقال: {اتَّقوا الله إن كُنتُم مؤمنين}؛ فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمةِ التقوى، وأن ينقادَ لأمر الله، ولا يطلُبَ من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئاً. فأخبر الحواريون أنَّهم ليس مقصودُهُم هذا المعنى، وإنما لهم مقاصد صالحة ولأجل الحاجة إلى ذلك، فقالوا: {نريدُ أن نأكُلَ منها}: وهذا دليل على أنهم محتاجونَ لها، {وتطمئنَّ قلوبُنا}: بالإيمان حين نرى الآياتِ العيانيَّة، حتى يكون الإيمان عينَ اليقين؛ [كما كانَ قبل ذلك علم اليقين]؛ كما سأل الخليل عليه الصلاة والسلام ربَّه أن يُرِيَهُ كيف يحيي الموتى، {قال أوَلَمْ تُؤمن قال بلى ولكن ليطمئنَّ قَلْبي}: فالعبد محتاجٌ إلى زيادة العلم واليقين والإيمان كلَّ وقت، ولهذا قال: {ونعلمَ أن قد صَدَقْتَنا}؛ أي: نعلم صدقَ ما جئتَ به أنه حقٌّ وصدقٌ، {ونكونَ عليها من الشاهدينَ}: فتكون مصلحةً لمن بعدَنا، نشهدُها لك، فتقومُ الحجة، ويحصلُ زيادة البرهان بذلك. فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك وعَلِمَ مقصودَهم؛ أجابهم إلى طلبهم في ذلك ، فقال: {اللهمَّ ربَّنا أنزِلْ علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً لأوَّلنا وآخرِنا وآية منك}؛ أي: يكون وقتُ نزولها عيداً وموسماً يُتَذَكَّرُ به هذه الآية العظيمة، فتُحْفَظ ولا تُنسى على مرور الأوقات وتكرُّر السنين؛ كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكراً لآياتِهِ، ومنبهاً على سنن المرسلين وطرقهم القويمة وفضله وإحسانه عليهم، {وارزقنا وأنتَ خيرُ الرازقينَ}؛ أي: اجْعَلْها لنا رِزْقاً. فسأل عيسى عليه السلام نزولها وأن تكونَ لهاتين المصلحتين: مصلحة الدين بأن تكون آيةً باقيةً، ومصلحة الدُّنيا، وهي أن تكون رزقاً. {قال الله إني مُنزِّلها عليكم، فمَن يَكْفُرْ بعدُ منكم فإني أعذِّبه عذاباً لا أُعذِّبُه أحداً من العالمين}: لأنَّه شاهدَ الآية الباهرة وكَفَرَ عناداً وظُلماً، فاستحقَّ العذاب الأليم والعقاب الشديد. واعلم أنَّ الله تعالى وَعَدَ أنه سينزلها، وتوعَّدهم إن كفروا بهذا الوعيد، ولم يذكر أنَّه أنزلها: فيُحتمل أنه لم يُنْزِلْها بسبب أنهم لم يختاروا ذلك، ويدلُّ على ذلك أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى ولا له وجود. ويُحتمل أنها نزلت كما وعد الله، وأنه لا يُخْلِفُ الميعاد، ويكون عدم ذِكْرها في الأناجيل التي بأيديهم من الحظِّ الذي ذُكِّروا به فنسوه، أو أنه لم يُذْكَرْ في الإنجيل أصلاً، وإنَّما ذلك كان متوارثاً بينهم، ينقله الخلف عن السلف، فاكتفى الله بذلك عن ذكرِهِ في الإنجيل، ويدل على هذا المعنى قوله: {ونكونَ عليها من الشاهدين}. والله أعلم بحقيقة الحال. {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنتَ قلتَ للنَّاسِ اتَّخِذوني وأمِّيَ إلهين من دونِ اللهِ}: وهذا توبيخٌ للنصارى الذين قالوا: إنَّ الله ثالثُ ثلاثةٍ! فيقول الله هذا الكلام لعيسى، فيتبرَّأ منه عيسى، ويقول: {سبحانَك}: عن هذا الكلام القبيح وعمَّا لا يَليقُ بك، {ما يكونُ لي أن أقولَ ما ليس لي بحقٍّ}؛ أي: ما ينبغي لي ولا يَليقُ أن أقول شيئاً ليس من أوصافي ولا من حقوقي؛ فإنَّه ليس أحدٌ من المخلوقين لا الملائكة المقرَّبون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم له حقٌّ ولا استحقاقٌ لمقام الإلهية، وإنما الجميع عبادٌ مدبَّرونَ وخلقٌ مسخَّرونَ وفقراء عاجزون. {إن كنتُ قلتُه فقد عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسِكَ}: فأنت أعلم بما صَدَرَ مني وأنت علاَّمُ الغُيوب، وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابِهِ لربِّه، فلم يَقُلْ عليه السلام: لم أقلْ شيئاً من ذلك، وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسِهِ أن يقولَ كلَّ مقالةٍ تُنافي منصِبَهُ الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزَّه ربَّه عن ذلك أتمَّ تنزيه، وردَّ العلم إلى عالم الغيب والشهادة. ثم صرَّح بذِكْرِ ما أمر به بني إسرائيل، فقال: {ما قلتُ لهم إلَّا ما أمَرْتَني به}: فأنا عبدٌ متَّبِعٌ لأمرِك لا متجرئٌ على عظمتك، {أنِ اعبُدوا الله ربِّي وربَّكم}؛ أي: ما أمرتهم إلاَّ بعبادةِ الله وحدَه وإخلاص الدين له المتضمِّن للنهي عن اتِّخاذي وأمي إلهين من دون الله وبيان أني عبد مربوب؛ فكما أنه ربُّكم فهو ربِّي، {وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم}: أشهدُ على من قام بهذا الأمر ممَّن لم يقم به. {فلما توفَّيْتَني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم}؛ أي: المطَّلع على سرائِرِهم وضمائِرِهم، {وأنت على كلِّ شيءٍ شهيد}: علماً وسمعاً وبصراً؛ فعلمُك قد أحاط بالمعلومات وسمعُك بالمسموعات وبصرُك بالمبصَرات؛ فأنت الذي تجازي عبادكَ بما تعلمُه فيهم من خيرٍ وشرٍّ. {إن تعذِّبْهم فإنَّهم عبادُكَ}: وأنت أرحمُ بهم من أنفسِهم وأعلمُ بأحوالهم؛ فلولا أنهم عبادٌ متمرِّدون؛ لم تعذبْهم، {وإن تَغْفِرْ لهم فإنَّك أنت العزيز الحكيم}؛ أي: فمغفرتُك صادرة عن تمام عزَّةٍ وقدرةٍ، لا كمن يغفر ويعفو عن عجزٍ وعدم قدرةٍ، {الحكيم}: حيث كان من مقتضى حكمتِكَ أن تغفرَ لمن أتى بأسباب المغفرة. {قال الله} مبيِّناً لحال عبادِهِ يوم القيامة ومَن الفائزُ منهم ومَن الهالكُ ومن الشقيُّ ومن السعيدُ: {هذا يومُ ينفعُ الصادقينَ صدقُهم}: والصادقونَ هم الذين استقامت أعمالُهم وأقوالُهم ونياتهم على الصراط المستقيم والهَدْي القويم؛ فيوم القيامة يجدون ثَمَرَةَ ذلك الصدق إذا أحلَّهم الله في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ. ولهذا قال: {لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوزُ العظيم}، والكاذبون بضدِّهم سيجِدون ضررَ كَذِبهم وافترائهم وثمرةَ أعمالهم الفاسدة. {لله ملك السموات والأرض}: لأنَّه الخالق لهما والمدبِّر لذلك بحكمِهِ القدريِّ وحكمه الشرعيِّ وحكمه الجزائيِّ. ولهذا قال: {وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ}: فلا يُعْجِزُهُ شيءٌ بل جميعُ الأشياء منقادةٌ لمشيئتِهِ ومسخَّرة بأمرِهِ.