يخبر تعالى أنَّه الغني عن العالمين، وأنه من يرتدَّ عن دِينِه؛ فلن يضرَّ الله شيئاً، وإنما يضرُّ نفسه، وأنَّ لله عباداً مخلصين ورجالاً صادقين قد تكفَّل الرحمن الرحيم بهدايتهم ووعد بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافاً وأقواهم نفوساً وأحسنُهم أخلاقاً: أجلُّ صفاتهم أنَّ الله {يحبُّهم ويحبُّونه}؛ فإنَّ محبَّة الله للعبد هي أجلُّ نعمة أنعم بها عليه وأفضل فضيلة تفضَّل الله بها عليه، وإذا أحبَّ الله عبداً؛ يسَّرَ له الأسباب، وهوَّن عليه كلَّ عسيرٍ، ووفَّقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عبادِهِ إليه بالمحبَّة والوداد. ومن لوازم محبَّة العبد لربه أنَّه لا بدَّ أن يتَّصف بمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً في أقواله وأعماله وجميع أحواله؛ كما قال تعالى: {قُلْ إن كُنتم تحبُّونَ الله فاتَّبعوني يُحْبِبْكُمُ الله}، كما أنَّ من لوازم محبَّة الله للعبد أن يكثر العبد من التقرُّب إلى الله بالفرائض والنوافل؛ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عن الله: «وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببتُهُ؛ كنتُ سمعه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصِرُ به، ويَدَهُ التي يبطِش بها. ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني؛ لأعطينَّه، ولئن استعاذني؛ لأعيذنَّه». ومن لوازم محبة الله معرفتُه تعالى والإكثار من ذكره؛ فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدًّا، بل غير موجودة، وإن وجدت دعواها، ومن أحبَّ اللهَ؛ أكثر من ذكرِهِ، وإذا أحبَّ اللهُ عبداً؛ قبل منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل. ومن صفاتهم أنهم: {أذلَّةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرين}؛ فهم للمؤمنين أذلَّة من محبتهم لهم ونُصحهم لهم ولينهم ورِفْقهم ورأفَتِهم ورحْمَتِهم بهم وسهولة جانبهم وقرب الشيء الذي يُطلب منهم، وعلى الكافرين بالله المعاندين لآياته المكذِّبين لرسُلِهِ أعزَّة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم: قال تعالى: {وأعِدُّوا لهم ما استطعتُم من قُوَّةٍ ومن رِباط الخيل تُرهبونَ به عدَّو الله وعدوَّكم}. وقال تعالى: {أشدَّاء على الكفار رحماءُ بينَهم}؛ فالغِلْظة الشديدة على أعداء الله مما يقرِّب العبد إلى الله ويوافِقُ العبد ربّه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغِلْظة عليهم والشدة دعوتَهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن، فتجتمع الغلظة عليهم واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم، ونفعه عائدٌ إليهم. {يجاهدون في سبيل الله}: بأموالهم وأنفسهم بأقوالهم، وأفعالهم. {ولا يخافونَ لومة لائم}: بل يقدِّمون رضا ربِّهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم؛ فإن ضعيف القلب، ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفْتُر قوتُه عند عذل العاذلين، وفي قلوبهم تعبُّدٌ لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق، وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله؛ فلا يسلم القلبُ من التعبُّد لغير الله، حتى لا يخاف في الله لومة لائم. ولما مدحهم تعالى بما منَّ به عليهم من الصفات الجميلة والمناقب العالية المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير؛ أخبر أنَّ هذا من فضله عليهم وإحسانه؛ لئلا يُعجَبوا بأنفسهم، وليشكروا الذي منَّ عليهم بذلك؛ ليزيدهم من فضله، وليعلم غيرهم أنَّ فضل الله تعالى ليس عليه حجاب، فقال: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}؛ أي: واسع الفضل والإحسان، جزيل المنن، قد عمَّت رحمته كلَّ شيء، ويوسِّع على أوليائه من فضله ما لا يكون لغيرهم، ولكنه عليمٌ بمن يستحقُّ الفضل فيعطيه؛ فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وفرعاً.