يأمر تعالى عباده المؤمنين بمقتضى الإيمان، وأنهم إن كانوا مؤمنين؛ فليأكلوا مما ذُكِرَ اسم الله عليه من بهيمة
الأنعام وغيرها من الحيوانات المحلَّلة، ويعتقدوا حلَّها، ولا يفعلوا كما يفعله أهل الجاهلية من تحريم كثير من الحلال ابتداعاً من عند أنفسهم وإضلالاً من شياطينهم؛ فذكر الله أنَّ علامة المؤمن مخالفةُ أهل الجاهلية في هذه العادة الذميمة المتضمِّنة لتغيير شرع الله، وأنَّه أي شيء يمنعُهم من أكل ما ذُكِر اسم الله عليه؛ وقد فصَّل الله لعباده ما حرَّم عليهم وبيَّنه ووضَّحه، فلم يبق فيه إشكالٌ ولا شبهةٌ توجِبُ أن يمتنعَ من أكل بعض الحلال خوفاً من الوقوع في الحرام. ودلت الآية الكريمة على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة، وأنه إذا لم يرد الشرعُ بتحريم شيءٍ منها؛ فإنَّه باق على الإباحة؛ فما سكتَ الله عنه؛ فهو حلالٌ؛ لأنَّ الحرام قد فصَّله الله؛ فما لم يفصِّله الله؛ فليس بحرام. ومع ذلك؛ فالحرام الذي قد فصَّله الله وأوضحه قد أباحه عند الضرورة والمخمصة؛ كما قال تعالى:
{حُرِّمَتْ عليكمُ الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ ... } إلى أن قال:
{فمنِ اضْطُرَّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ}. ثم حذر عن كثير من الناس، فقال:
{وإنَّ كثيراً لَيُضِلُّونَ بأهوائهم}؛ أي: بمجرَّد ما تهوى أنفسهم
{بغيرِ علم}: ولا حجَّة؛ فليحذرِ العبد من أمثال هؤلاء، وعلامتُهم كما وصَفَهم الله لعبادِهِ أنَّ دعوتَهم غير مبنيَّة على برهانٍ ولا لهم حجَّة شرعيَّة، وإنما يوجد لهم شبهٌ بحسب أهوائهم الفاسدة، وآرائهم القاصرة؛ فهؤلاء معتدونَ على شرع الله وعلى عبادِ الله، والله لا يحبُّ المعتدين؛ بخلاف الهادين المهتدين؛ فإنهم يدعون إلى الحقِّ والهدى، ويؤيِّدون دعوتهم بالحجج العقليَّة والنقليَّة، ولا يتَّبعون في دعوتهم إلا رضا ربِّهم والقرب منه.