ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقواتِ؛ ذكر مِنَّته بتهيئة المساكن وخلقه كلَّ ما يحتاجُ إليه العباد من الضياء والظلمة وما يترتَّب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح، فقال:
{فالقُ الإصباح}؛ أي: كما أنه فالق الحبِّ والنَّوى، كذلك هو فالقُ ظلمةِ الليل الداجي الشامل لما على وجه الأرض بضياء الصُّبح الذي يفلقه شيئاً فشيئاً، حتى تذهبَ ظلمةُ الليل كلُّها ويخلُفُها الضياءُ والنورُ العامُّ الذي يتصرَّف به الخلقُ في مصالحهم ومعايشهم ومنافع دينهم ودنياهم. ولما كان الخلقُ محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة التي لا تتمُّ إلا بوجود النهار والنور؛
{جعل}: الله الليلَ سَكَناً يسكن فيه الآدميُّون إلى دورهم ومنامهم و
الأنعامُ إلى مأواها والطيورُ إلى أوكارها فتأخذ نصيبها من الراحة، ثم يزيل الله ذلك بالضياء، وهكذا أبداً إلى يوم القيامة.
{و} جعل تعالى
{الشمسَ والقمرَ حُسْباناً}: بهما تُعرف الأزمنة والأوقات؛ فتنضبِطُ بذلك أوقات العبادات وآجال المعاملات، ويُعْرَفُ بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجودُ الشمس و
القمر وتناوُبُهما واختلافُهما لما عَرَفَ ذلك عامة الناس واشتركوا في علمه، بل كان لا يعرفه إلا أفرادٌ من الناس بعد الاجتهاد، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت.
{ذلك}: التقدير المذكور،
{تقديرُ العزيز العليم}: الذي من عزَّته انقادت له هذه المخلوقاتُ العظيمة فَجَرَتْ مذلَّلة مسخَّرة بأمره، بحيثُ لا تتعدَّى ما حدَّه الله لها ولا تتقدَّم عنه ولا تتأخَّر، العليم الذي أحاط علمُهُ بالظواهر والبواطن والأوائل والأواخر. ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمِهِ تسخيرُ هذه المخلوقات العظيمة على تقديرٍ ونظام بديع تَحير العقول في حسنِهِ وكماله وموافقته للمصالح والحكم.