فلم يبقَ إلاَّ الصبر لأذاهم والتحمُّل لما يصدُرُ منهم والاستمرار على دعوتهم، ولهذا قال: {فاصبِرْ لحكم ربِّك}؛ أي: لما حكم به شرعاً وقدراً؛ فالحكم القدريُّ يُصْبَرُ على المؤذي منه ولا يُتَلَقَّى بالسخط والجزع، والحكم الشرعيُّ يقابَلُ بالقَبول والتسليم والانقياد [التامِّ] لأمرِهِ. وقوله: {ولا تكن كصاحب الحوتِ}: وهو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام؛ أي: ولا تشابِهه في الحال التي أوصلَتْه وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومِهِ الصبرَ المطلوب منه وذَهابُه مغاضباً لربِّه، حتى ركب [في] البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها أيُّهم يلقون؛ لكي تَخِفَّ بهم، فوقعت القرعةُ عليه، فالتقمه الحوتُ وهو مليمٌ. وقوله: {إذ نادى وهو مكظومٌ}؛ أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه، أو: نادى وهو مغتمٌّ مهتمٌّ، فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين، فاستجاب الله له، وقَذَفَتْه الحوتُ من بطنها بالعراء وهو سقيمٌ، وأنبت الله عليه شجرةً من يقطينٍ، ولهذا قال هنا: {لولا أن تدارَكَه نعمةٌ من ربِّه لَنُبِذَ بالعراء}؛ أي: لَطُرِحَ في العراء، وهي الأرض الخالية، {وهو مذمومٌ}: ولكنَّ الله تغمَّده برحمته، فَنُبِذَ وهو ممدوحٌ، وصارت حالُه أحسنَ من حاله الأولى، ولهذا قال: {فاجتباه ربُّه}؛ أي: اختاره واصطفاه ونقَّاه من كلِّ كدرٍ، {فجعله من الصالحين}؛ أي: الذين صَلَحَتْ أعمالهم وأقوالهم ونيَّاتهم وأحوالهم.