سورة يونس سورةٌ مكيَّة، ومحورها الأساس الإيمان، والقرآن المكي في الأغلب يدور حول هذا المحور، مع اختلافٍ في مراحل المعالجة، وتنوعٍ في أسلوب العرض والنقاش، وفي مقدمات هذه السورة يشرح القرآن بتركيزٍ دقيقٍ المبادئ الكليَّة لمفهوم الإيمان:
أولًا: الإيمانُ بالله الخالق
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ﴾،
﴿هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِیَاۤءࣰ وَٱلۡقَمَرَ نُورࣰا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَ ٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ ۚ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ ﴿٥﴾ إِنَّ فِی ٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَّقُونَ﴾ إن القرآن هنا يطرح قضيتين اثنَتَين: قضية الخلق، وقضية تدبير هذا الخلق؛ فالخلق هو: الإيجاد من العدم، والإنسان لا يستطيع أن يدَّعي أنه هو الذي أوجد هذه الكائنات من العدم، ولا يستطيع أن ينسب هذا الإيجاد لغيره مما هو مشاهد عنده، حتى الأصنام والآلهة المزيَّفة فهي أعجز من الناس الذين يعبدونها.
أما الهروب إلى مقولة "قِدَم العالم" فهو هروب من منطق العقل وضرورات التفكير الآدمي، فلا مناص من الاعتراف بنقطة بداية محدَّدة لهذا الإيجاد، وهذه النقطة لا بدَّ لها من فعلٍ مؤثِّرٍ، ولا فعل بلا فاعل.
أما القضية الثانية: فكأن القرآن يُجارِي هؤلاء المُنكِرين والمُكابِرين، وينزل إلى مستوى عقولهم ونفوسهم؛ ليقيم عليهم الحجة، كأنه يقول لهم: هَبُوا أن هذه الكائنات كلّها قد وُجدت من غير مُوجِدٍ، فمن الذي يُدبِّرها كلَّ هذا التدبير، ويضع هذه الموازين الدقيقة في حركتها وانسيابيتها وتطوُّر حياتها وتلبية حاجِياتها حتى تستمر في حياتها وعطائها؟
فالعلاقة بين الأرض والشمس علاقة حياة ووجود، لو ابتعدت الأرض عن مسارها هذا أو اقتربت لانتهت الحياة، وكذلك العلاقة بين الليل والنهار، وكلّ الأشياء المتعددة والمتنوعة في هذا الكون، فمن الذي وضع هذه المقاييس، وضبط كلَّ هذه العلاقات؟ وهذه قضيَّة مشاهدة وملموسة.
ثانيًا: استنطاق الفطرة، فبعد استنطاق العقل يتحوَّل القرآن إلى عُمق الفطرة الإنسانيَّة فيُخاطبها بقوله:
﴿وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦۤ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَاۤىِٕمࣰا فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ یَدۡعُنَاۤ إِلَىٰ ضُرࣲّ مَّسَّهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ زُیِّنَ لِلۡمُسۡرِفِینَ مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾.
وهذه ظاهرة بشريَّة عامة، فالناس وهم أقوياء أصِحَّاء غيرهم حينما يمرُّون بمراحِلِ الضعف وأوقات الشدَّة، فالراقدون على أسرَّة المشافي لا تسمع منهم إلا كلمات الإيمان، والأدعية الخالصة، والسلوك الهادئ اللطيف، إنهم يتجرَّدون عن بهرج الغرور والكبرياء الذي كان يغطِّي فطرتهم وطبيعة آدميتهم.
إن اللجوء إلى الخالق حينما تتعطّل الأسباب هو عمليَّة كشف لما هو مستور في أعماق الفطرة الإنسانيَّة، وهذا المستور لا يتنافَى مع العقل أو العلم، بل كلاهما يدعو للآخر ويعضِّده ويكمِّله.
ثالثًا: الإيمان المرتبط بالعمل، فالإيمان الذي يدعو له القرآن ليس هو ذلك الإيمان الفلسفي المجرَّد الذي يلبِّي حاجة عقلية محضة تُحتِّمها أقيِسَة منطقية لا يستطيع العقل منها فكاكًا، وهو النمط الذي ساد عند كثير من فلاسفة اليونان؛ حيث أوصَلَتهم عقولهم إلى الإيمان بوجود الخالق باعتباره علَّة لهذا الخلق؛ لأن هذا هو التفسير الوحيد لنشأته ووجوده، أما ماذا ينبني على هذا الإيمان؟ فهذا لم يكن من اهتمامهم!
أما القرآن فإنه يرتِّب على هذا الإيمان سلوكًا عمليًّا يبدأ بالخضوع التام لهذا الخالق العظيم، لأمره ونهيه، كما يخضع هذا الكون كلُّه لنواميسه وسننه المقدَّرة والمحكمة، ويلخِّص القرآن مسؤوليَّة الإنسان هذه بجملة واحدة
﴿ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ﴾.
رابعًا: لا عملَ إلا بوحيٍ، فالعمل المطلوب بعد الإيمان - والذي هو العبادة - لا يمكن أن يكون إلا وفق أمر الله ونهيه، وإلا لما سمِّي عبادة، والبشر ليس عندهم القدرة لمعرفة أمر الله ونهيه إلا من خلال الوحي، ومن ثَمَّ كانت معركة القرآن الأولى مع المشركين إنما هي الإيمان بالوحي؛ ذاك لأن المشركين لم تكن عندهم مشكلة في أصل الإيمان، فهم يؤمنون بالله الخالق، لكنَّهم يتنكرون لعبادته، ويأنَفون من الخضوع لأمره ونهيه، وهذا هو الذي دعاهم لتكذيب النبيِّ وإنكار الوحي
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ رَجُلࣲ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرࣱ مُّبِینٌ﴾ ولأنهم يعرفون أنه ليس بسحرٍ بدأ القرآن يُحذِّرهم من التمادي في هذا الجحود والمعاندة الباطلة.
خامسًا: الإيمان بيوم الجزاء؛ إذ هو القوة الدافعة لتحقيق الإيمان العملي المقترن بالخشية من الله وطلب الثواب منه
﴿إِلَیۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ یَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابࣱ مِّنۡ حَمِیمࣲ وَعَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُواْ یَكۡفُرُونَ﴾،
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِنَا غَـٰفِلُونَ ﴿٧﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ ﴿٨﴾ إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ یَهۡدِیهِمۡ رَبُّهُم بِإِیمَـٰنِهِمۡۖ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ فِی جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِیمِ﴾.