(مجالس النور في تدبر القرآن الكريم وتفسيره) يقع الكتاب في أربعة مجلدات من القطع المتوسط، في نحو ألفي صفحة، أصدرته دار نشر جامعة قطر عام 2020، وهو من تأليف الدكتور محمد عيّاش الكبيسي، بمشاركة عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية د. إبراهيم الأنصاري ود. محمد المصلح و د. وليد الحسيني؛ بهدف تقديم وقفات تدبرية لفهم القرآن الكريم وتفسيره بمنهج علمي تربوي جديد، يصلح لمخاطبة الإنسان المعاصر ويسهم في بناء شخصيته، ويساعد في حل مشكلات هذا الجيل.
الحمدُ لله, وسلامٌ على عباده الذين اصطفى, والصلاة والسلام على نبيِّه مُحمَّد المصطفى, وآله وأصحابه وأزواجه وذريَّاته، ومن سَارَ على سُنَّتِه واقتَفَى.
أما بعد:
فبعدَ طولِ تردُّدٍ وتهيُّبٍ واستشارةٍ واستخارة، بدأْتُ هذه الليلة (ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان لسنة 1435هـ) بكتابة تفسيرٍ جديدٍ للقرآن الكريم، وهي الليلة التي يغلب على الظنِّ أنها ليلة نزول القرآن، ولعلَّه استهلالٌ مُباركٌ، واقترانٌ لتدوين تدبُّرِه بيومِ نزوله, فإنما التفسير تدبُّرُ العباد لكتاب ربِّهم، وهو - لا شكَّ - من أغلى الواجبات، وأسمى القربات (أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ) [محمد: 24].
وهو - أي: التدبُّر - حلقةُ الوصل بين وجوب تلاوته ووجوب العمل به، وكلَّما كان العمل بالقرآن واجبًا كان تدبُّره واجبًا كذلك؛ إذ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
المقدمة الأولى:
هذا وقد ارتأيتُ أن أُقدِّم بهذه المقدِّمات والموجِّهات المنهجيّة التي اعتمدتها في هذا العمل من مُبتدَئِه إلى منتهاه؛ خدمةً للقارئ، ورجاءَ أن يطَّلِع على الإضافة المرجوَّة من هذا الجُهد الذي أسأله تعالى أن يكون مُسدَّدًا منه، ومقبولًا عنده.
القرآن كلام الله، والتدبُّرُ فعلٌ بشري، وما يُدوِّنه المُتدبِّرُون هو التفسير، وعليه فالتفسير ليس معصومًا إلا إذا كان نقلًا عن المعصوم؛ كتفسير القرآن بالقرآن، أو تفسيره بالسنَّة الصحيحة، والتفسيرُ اجتهادٌ يستحق المفسِّر فيه ما يستحقه الفقيه، وشارح السنَّة، والباحثون في العلوم الشرعية الأخرى أجرًا واحدًا إن أخطأ، وأجرَين إن أصاب، شرطَ كونه من أهلِ الاستنباط، وإلا كان متلاعبًا في الدين يستحق الوزر واللوم أصابَ أو أخطأ؛ لأنّ صوابه محض صُدفة، وليس عن اجتهاد.
وقد جاء عن النبي ﷺ قوله: «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([1]). ويشمل هذا التحذير كل من تجرَّأ على تفسير القرآن بجهلٍ في قواعد التفسير وأدواته، أو بنزعة هَوًى تَلوِي النصوص لغرضٍ ما بعيدًا عن لغتها وسياقها ومقاصدها.
المقدمة الثانية:
هذا إذن تمييز ضروري بين مساحة الوحي المقدَّس وبين الفكر البشري، وإن كان هذا الفكر متصلًا بالوحي فهمًا واستنباطًا واستدلالًا، ويَنتج عن هذا جرأة علمية محمودة لنقد التراث التفسيري، وفتح المجال لقراءات جديدة تتناسب مع مسيرة الحياة الإنسانية، والكشوفات العلميَّة الصاعدة في مجالات هذا الكون الرحيب.
الفارق بين التفسير الأصولي المقبول والتأويل المرفوض كالتأويلات الباطنية إنما هو في الالتزام بثوابت النص، وثوابت اللغة، وثوابت العقل.
أما النصُّ فهو الأصل، وهو مدارُ البحثِ والاجتهاد، والقرآن مقطوعٌ بصحة وروده، وإنما يقع الاجتهاد على ما احتمل أكثر من معنًى من غير الخروج إلى معنًى آخر لا يحتمله النص، أو في التقاط لطيفة تُوسِّع مدلول المعنى الأول ولا ترفعه، أو تجمع بينه وبين نصٍّ أو نصوصٍ أخرى، مما يسمى اليوم بالقراءة التحليليّة المركَّبة، وكذلك البحث في مقتضيات التنزيل وموانعه، وناسخ النص ومنسوخه، وسُنَّة التدرُّج فيه، ونحو هذا مما هو من صَمِيمِ التدبُّرِ المطلوب، والاستنباط الذي خَصَّ الله به أهلَ العلم.
أما اللغة؛ فهي - لا شك - وعاءُ القرآن، فالتضلُّع فيها شرط التدبُّر الصحيح، وكل تأويل لا تحتمله اللغة العربية فهو تأويلٌ باطل مُنافٍ للأصول، وكلّ تأويلٍ بضعيف اللغة وغريبها فهو ضعيف ومرجوح؛ لِمَا عُلِمَ أن القرآن قد تحدَّى العرب ببيانه وفصاحته، واستعمال الغريب معِيبٌ في لسان الأدباء والشعراء، فكيف بكلام ربِّ العالمين؟!
أما العقل؛ فقد نصَّ القرآن على شرطيَّته في التدبُّر، فقال: (إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ)([2])، وادِّعاءُ التعارض بين العقل والنقل ادِّعاءٌ باطل، ويعود مآله قدحًا وتشكيكًا بالوحي نفسه، وليس المقصود بالعقل هنا تلك النظريات العلميّة، أو المباحث الفلسفيّة التي شاع الاختلاف بين أربابها، فضلًا عن غيرهم، وإنما المقصود: كل ما أقرَّتْه العقولُ ببديهتها واستنتاجاتها الثابتة والمُبرهَنة، وما توصَّلَت إليه بحواسِّها؛ كالمرئيات، والمسموعات، وسائر المُدرَكات التي لا يختلف فيها الناس، وهي أصلٌ من أصولِ الحياة الآدمية لا يُنكِرُها إلا مُكابِرٌ.
وأما ما شاعَ من جدل حول تقديم العقل على النقل وعكسه فهو جدل باطل، وهو كمن يتجادل في تقديم قواعد اللغة على قواعد الشرع أو عكسه؛ إذ العقل لا يُشرِّع حكمًا دينيًّا، وكذلك اللغة، وإنما هما وسيلتان لفهم النص، وترجيح المصدر على الوسيلة، أو ترجيح الوسيلة على المصدر لا معنى له، أما إذا كان المقصود منح العقل صلاحيّة التشريع بمعزل عن الوحي، فهذا باطل، أصاب العقل في تشريعه أو أخطأ.
وإذا سلِمَت لنا الأصول الثلاثة، فإن هناك مُوجِّهات تُستمدُّ من روح التشريع، ومبادئه العامة، ومقاصده الكليَّة، تجب مراعاتها في كل مسألة كبيرة أو صغيرة، فإذا كان المعنى الذي يحتمله النص أقربَ لهذه الموجِّهات فهو الأقرب للأخذ به.
ومثال هذا: إذا كانت رحمةُ الله قد سبَقَت غضبَه، فليسبِق إذن المعنى الذي هو أقرب للرحمة، والذي تتحقَّقُ فيه مصالح العباد، وهكذا.
المقدمة الثالثة:
المناهج التفسيرية على اختلافها وتنوعها تتكامل ولا تتعارض ما دامت تدور في مساحة الاجتهاد المشروع؛ فالتفسير الأثري الذي يعتمد جمع الروايات التفسيرية من الأحاديث الصحيحة، وأقوال الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين، يُعطِينا صورةً لتدبُّر القرآن في ذلك العصر الذي هو أفضل العصور، والذي امتازَ بمخرجاته التربوية الرائدة، والتي لا يمكن إلا أن تكون نتاجًا لذلك الفهم والتدبُّر الصحيح والسليم للقرآن الكريم.
وممن اعتَنَى بهذا النهج: الإمامُ ابن جرير الطبري، ثم الإمام ابن كثير، وللأول مَيْزة السبق والجمع، وللثاني مَيْزة التمحيص والاختصار، مما سهَّل انتشارَه واعتمادَه لدى عامَّة العلماء والباحثين.
وأما التفسير اللُّغوي، فقد تكفَّل بتَمتِينِ الصلةِ بين كتاب الله واللغة العربية التي نزل بها صرفًا ونحوًا وبلاغةً، وممن اشتهر بهذا النهج: العلامةُ الزمخشري في كتابه «الكشَّاف»، وهذا النهج في التفسير يُحقِّقُ واجبًا شرعيًّا نصَّ عليه القرآن بقوله: (إِنَّـاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) [يوسف: 2]، ففَهْمُ القرآن مبنيٌّ على فهم العربيَّة ولا ينفَكُّ عنها.
وأما التفسير العلمي الموضوعي عقيدةً وفقهًا وأخلاقًا وتاريخًا وإعجازًا، فمِمَّن ألَّف فيه تأليفًا واسعًا وشاملًا: الإمامُ القرطبي، والإمامُ الرازي.
وهناك من اقتصر على بابٍ واحدٍ من أبواب العلم، كأخلاق القرآن، وإعجاز القرآن، وهذا شائعٌ في هذا العصر أكثر مما سبق، وهذا كلُّه واجبٌ شرعيٌّ بقوله تعالى: (لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ) [النساء: 83].
فكلّ صاحب اختصاص في أيِّ علم من العلوم عليه أن ينهَلَ من القرآن الكريم، فهو المصدر الأول للتشريع، وهو مصدر المصادر؛ إذ حُجيَّة السنَّة، ثم الإجماع والقياس والمصلحة إنما استُمِدَّت من القرآن الكريم، والاستنباط هذا هو غاية المنهجَين السابِقَين الأثري واللغوي، فجمع الروايات التفسيرية للآية الواحدة، أو جمع القواعد الصرفية والنحوية ودقائق البيان والبلاغة، إنما يُقصد من كلِّ ذلك استنباط الحكم، والوصول إلى مقصود الآية، وهذا هو الاستنباط.
هذا وقد تراوَحَت جهود المفسرين بين هذه المناهج الثلاث: تلخيصًا، أو تهذيبًا، أو تحقيقًا، حتى أطلَّت بوادر الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة حركات التغريب والغزو الثقافي، فانبرى المُفسِّرُون الجُدُد لقراءة القرآن قراءةً تنسجِم مع حاجة الأمة ومشاعرِها، وحركتها الدؤوب لاستعادة التوازن المطلوب، بعد سلسلة النكسات التي أدَّت في النهاية إلى سقوط الخلافة، وضياع الخيط الناظم لوحدة الأمة.
وقد أضاف التفسيرُ في هذه المرحلة طرائق جديدة في التفسير، تتناسب مع متطلبات العصر، منها:
- طريقة راحَت تكشف ما في القرآن من مَعِينٍ لا ينضُب من القواعد والمبادئ، إضافةً إلى الأحكام التفصيلية القادرة على مواكبة العصر، ووضع الحلول المناسبة لمشاكِلِه، وهو ما عُرف بالتفسير المقاصدي.
وهذا المنهج إنما يسعى لاسترداد الثقة بعقيدة الأمة وتراثها، وأنه عندها ما يُغنِيها عن المنتجات الحضارية والثقافية القادمة من الخارج، ومن خير مَن جسَّدُوا هذا المنحَى: الطاهرَ ابن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير»، وكذاك الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره «المنار».
- بينما استعلَت الطريقة الثانية على هذا الواقع، وراحَت تستوحِي منهجَ القرآن في تأسيس الأمة وتكوينها، ولا أعلم أحدًا من المُفسِّرين سبقَ الأستاذَ سيد قطب في هذا، ولعلَّ انخراط سيد في عملٍ جماعيٍّ ذي طبيعة حركيّة شاملة، قد دفعه لقراءة القرآن قراءةً يدفعها العطش لاستنباط (المنهج الحركي)، الذي يُواكِبُ حاجة (الجماعة)، وهي الفكرة المحورية للظلال، تأسيسًا وتكوينًا وتميُّزًا، وولاءً وبراءً، وكان هذا على حساب المجالات الأصولية والفقهية والتشريعية التي تحتاج إليها الجماعة نفسها.
وربما تنبَّه الشيخ سعيد حوَّى لهذا، فأردفه بكتابه الأساس لمعالجة المساحات التفصيليّة التي يعالجها الظلال، وهذه هي طبيعة العمل البشري مهما بلَغَ من النضج والإتقان.
المقدمة الرابعة:
الإسلام بناء متكامل، وقد ورد هذا المعنى بقوله ﷺ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»([3])، وهذه صورةٌ كليَّةٌ تنتظم فيها كلُّ معاني الإسلام كاللبنات المتماسكة.
وكم هو البَون الشاسع بين من يرَى الإسلام لَبِنَات متناثرة لا يربطها رابط، ولا يجمعها جامع، وبين من يراه وحدة بنائية كاملة، فتلك لا تقِي من حَرٍّ ولا من قُرٍّ، ولا تَقوَى على مقاومة العوادي والبوادي، فمصيرها التفتُّت والتلَف.
وأما هذه فهي البيت الذي يأوي إليه الناس طلبًا للسكن والطمأنينة، والوقاية والحماية.
هذا وقد تكفَّل القرآن بوضع الخارطة الأساس لهذا البناء، ولم يُوكِل هذه المهمة لغيره؛ إذ مهمة السُّنَّة البيان بعد التأسيس، والتفصيل بعد الإجمال؛ ولذلك ترى أحاديث الطهارة مثلًا، وهيئات الصلاة تأخذ مساحة واسعة من السنَّة على خلاف القرآن، بينما تجِدُ القصص النبوي الذي يؤسس للمناهج الإصلاحية، وطرائق التحرُّك بهذه العقيدة أوسع في القرآن بكثيرٍ عما هو في السنَّة.
ومن ثَمَّ فمَن أخذ الصورة الكليَّة للإسلام عن السنَّة، سيكون بالضرورة مخالفًا لمَن يأخذها عن القرآن، وهذه واحدة من مشاكل الفهم التي زلَّت بها الأقدام وتباينت بها الأفهام.
المقدمة الخامسة:
وجديرٌ بالتنويه هنا أن الذي يقرأ القرآن أيضًا بغير هذه المنهجيَّة - أقصد: منهجيَّة البناء المتكامل - فإنه سيقع فيما وقع فيه مُقدِّمُ السنَّة على القرآن في أخذ الصورة الكليَّة عن الإسلام.
كما أن القرآن قد تكفَّل بوضع الخارطة الكليَّة للبناء الإسلامي المُتماسِك والمُتكامِل (المِلَّة)، فإنه تكفَّل أيضًا بوضع الخارطة الكليَّة لبناء المجتمع (الأمة)؛ إذ القرآن ليس كتابًا نظريًّا، ولا قانونًا تشريعيًّا مُجرَّدًا، ولا عقيدةً فلسفيَّةٍ تضع المقدِّمات المنطقيَّة، أو تُحلِّلُ الظواهرَ الكونية، إنه منهج حياة: (یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِیبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ) [الأنفال: 24].
ومن ثَمَّ فالإسلام رسالة سماويَّة مقدَّسة (الملَّة)، وصورة ماثلة في الأرض (الأمَّة)، فهاتان هما قوام الدين والدنيا، لا تنفكُّ إحداهما عن الأخرى (یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِینَ) [التوبة: 119]، (وَإِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ) [المؤمنون: 52].
فالتمسُّك بالأمة لا يقلُّ أهميةً وضرورةً عن التمسُّك بالمِلَّة، مع ملاحظة الفارق بين الرسالة المقدَّسة المعصومة من الخطأ، وبين الواقع البشري للأمة المُعرَّض للزَّلَل والشَّطَط (ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَیۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَیۡرَ ٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ) [فاطر: 32].
فالقرآن لم يأتِ ليُؤسِّس أمةً ملائكيَّةً أو سماويَّةً، إنه يعمل في هذه الأرض وبين هؤلاء البشر، ومن ثَمَّ تجِدُ القرآن بقدر ما يؤكِّدُ أُسُس البناء في الأمة من مبادئ إيمانيَّة، ومنظومة قيميَّة، وأنظمة تشريعيَّة يُؤكِّد أيضًا معاني التوبة والإنابة، والتناصح والتسامح؛ فما يذكره القرآن استحقاقًا على الإثم والخطيئة، ربما يرفعه واقعًا وتطبيقًا.
المقدمة السادسة:
وهذا من رحمة الله الغالبة، وحكمته الماضية، وعلمه بأحوال خلقه، ومن لم يدرك هذه المنهجيَّة القرآنيَّة في بناء المجتمعات والأمم، فإنه سيضطرب فهمُه لآيات الله، ويقع في التناقُض أو التضادِّ، والقراءة الناقصة والمقطَّعة لتجارب النبيين السابقين،
ولسيرة أكرم المرسلين عليه وعلى إخوانه الصلاةُ والتسليم ، مما يصعُب معه التقاط المنهج الصالح للتأسِّي والاقتداء والاعتبار.
ثمّ بعد ذلك - أي: بعد بناء الخارطة الكليَّة لمفهوم الملَّة، ثم لمفهوم الأمَّة - لا يُغفل القرآن البُعد الثالث، وهو البُعد الإنساني الأوسع، والذي جعله القرآن غايته الكبرى: (وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ) [الأنبياء: 107] (وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا كَاۤفَّةࣰ لِّلنَّاسِ بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰا) [سبأ: 28]، فالقرآن ما جاء أبدًا ليعزل المؤمنين به عن هذا العالم الفسيح، بل هم أدواته البشريَّة للوصول إلى هذا الإنسان حيثما كان.
ومن ثَمَّ جاء الخطاب القرآني: (یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ)، (یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ)، (یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ)([4]) يخاطبهم أينما كانوا في الزمان، وأينما كانوا في المكان، في التاريخ والجغرافيا، من آدم وحوَّاء، وقصَّة الخلق الأولى إلى أشراط الساعة وإعلان النهاية الحتميَّة لهذه الحياة.
إنه يتحدَّث عن الأرض كلّ الأرض (إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ) [البقرة: 30]. لا يتحدَّث عن الحواجز والفواصل، لا عن الدولة القديمة، ولا عن الدولة الحديثة، لا عن جزيرة العرب، ولا عن جزائر العجم، يخاطب الإنسان رضيعًا وطفلًا، شابًّا وشيخًا، رجلًا وامرأةً، ويجعل الاحترام قاعدة التواصل الأولى: (وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ) [الإسراء: 70].
مُندِّدًا بالظلم والعدوان من أيِّ طرف على أيِّ طرف: (وَقَـٰتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ) [البقرة: 190]، ولو كان هذا العدوان بين الرجل وأهل بيته: (لَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ) [النساء: 19]، أو بين الشريك وشريكه: (وَیۡلࣱ لِّلۡمُطَفِّفِینَ ﴿١﴾ ٱلَّذِینَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ یَسۡتَوۡفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ یُخۡسِرُونَ) [المطففين: 1- 3]، أو استغلالًا للضعفاء: (وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُىِٕلَتۡ ﴿٨﴾ بِأَیِّ ذَنۢبࣲ قُتِلَتۡ) [التكوير: 8، 9]، (إِنَّ ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ أَمۡوَ ٰلَ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا یَأۡكُلُونَ فِی بُطُونِهِمۡ نَارࣰاۖ وَسَیَصۡلَوۡنَ سَعِیرࣰا) [النساء: 10].
أما ما نراه اليوم من تغليبٍ لمفهوم الولاء، وجعله فيصل التعامل مع الناس، فهذا مردُّه الجهل بفقه العلاقات الذي فتح القرآن آفاقه، وأكَّده النبي الكريم ﷺ في سيرته العطِرة، بل وجهْل بعقيدة الولاء والبراء نفسها؛ فالتمايُزُ في الهويَّة والنظرة الكليَّة للدين والكون والحياة شيء، والتقاطع والتدابر والتخاصم شيء آخر.
أمَا رأيتَ كيف قاطَعَت قريشٌ المسلمين ومعهم بنو هاشم، ثم نقض الله وثيقة المقاطعة بأمرٍ من عنده؟! فكان في هذا الفَرَج والخير للمسلمين، فكيف تنعكس الصورة فيسعى المسلمون إلى عزل أنفسهم ومقاطعة العالم لهم؟!
المقدمة السابعة:
القرآن إنما جاء لإصلاح هذه الحياة، وتحقيق السعادة لأهلها، ونشر الرحمة في ربوعها، والحياة ليست لونًا واحدًا، ولا وترًا ثابتًا، ومن ثَمَّ كان من شروط التدبُّر السليم مُراعاة الدوائر المختلفة في هذه الحياة، وخصوصيَّة الخطاب القرآني لكل دائرة، فالخطاب الموجَّه للدعاة وهم يجوبون الأرض لنشر هذا النور لا يمكن أن يكون هو عين الخطاب الموجَّه للجنود وهم في ثكناتهم وخنادقهم، والخطاب الموجَّه لإعداد القضاة الذين يحكمون بالعدل ليس هو الخطاب الموجَّه للمعلِّمين الذين يأخذون بأيدي طلابهم في مراقي التعلُّم والتربية، والخلط بين هذه الدوائر يُنتج غبشًا ثقيلًا، واختلاطًا مؤذيًا.
وهذه إحدى مشكلات العصر، فكم ترى من دعاة يكثرون من الاستشهاد بقصَّة طالوت مثلًا، وكأنهم سائِرون إلى الحرب، فتتخرَّج أجيال عندهم لا تحسن التعامل مع المؤسسات المدنية، ولا توطيد العلاقات الاجتماعية.
والحقُّ أن قصَّة طالوت ومنعه لجنده من شرب الماء إنما جاءت نموذجًا للتربية العسكريّة وليست للتربية الدعويّة، فالانضباط العسكري شرط في الجنديَّة، بينما الحلم والتسامح والتغافل شروط التربية الدعويَّة، ومثل هذا قُلْ في الفارق بين إعداد القاضي وإعداد المعلِّم.
وقد ترى في القرآن النبيَّ الذي يدعو على قومه والنبيَّ الذي يدعو لهم، فيظنُّ الظانُّون أن هذا نابِعٌ من اختلافٍ في طبائعهم عليهم الصلاة والسلام، فترى فينا من يُفاضِلُ بين هذا النبيِّ وذاك، وأخطر من هذا الاستشهادُ الانتِقائي بحسب طبيعة المستدِل أو المستشهِد، وهذا كثير وشائع في زماننا، ومردُّه الأساس غياب المنهجية السليمة في تدبُّر القرآن، وإدراك طرائقه في إصلاح هذه الحياة بكل دوائرها ومساراتها، ولو كان القرآن كما توهَّمُوا لضاعَت قاعدة التأسِّي، وأصبحت مدعاةً للتشتُّت مكان التجمُّع، وللتفرُّق مكان التوحُّد، كيف والله يقول: (فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ) [الأنعام: 90]، ويقول: (وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ) [آل عمران: 103].
المقدمة الثامنة:
اليوم إذا أرادَت الأمة أن تتجاوز مرحلة الصدمة وردة الفعل، فستُواجِهُها أسئلةٌ كبيرةٌ في مختلف مجالات الحياة، من بينها: صورة المجتمع الإنساني، والعلاقات البينيّة بين أفراده ومكوناته، وصورة الدولة الحديثة وعلاقاتها بالمجتمع الدولي، وآليات النهضة والتنمية المطلوبة، والموقف من المقولات القيميَّة السائدة؛ كالحرية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، والتعدديَّة السياسيَّة، والتداول السلمي للسلطة، والتي أصبحت ركنًا ركينًا في ثقافة العصر، وهي تنمو ولا تتوقف عند حد، ومن ثَمَّ فلا بُدَّ من الاستِجابة لها بالتدبُّر النامِي والمستمر أيضًا.
لقد جرَّبَت الجماعات الإسلامية والحركات الجهادية حظَّها في الاشتباك السلمي أو العنفي مع هذه المقولات ومن يقف وراءها، وكانت النتائج لحدِّ الآن ليست بصالحها، وكان التعذُّر دائمًا بفارق القوَّة وفارق الإمكانيات والخبرات المتراكمة، وكأنَّه كان على الآخر أن يتنازل عن مكتسباته وإنجازاته، لكي يتيح لنا فرصةَ تجربة الحل الإسلامي الذي نراه!
لقد كانت نظرية (الحل الإسلامي) أشبه بصندوق ورِثَه الأبناء عن أجدادهم، وكانوا يعتقدون أنهم حينما تأتي الفرصة المناسبة، فإنهم سيجِدُون في هذا الصندوق كل ما يحتاجون إليه، وحينما جاءت الفرصة وفتحوا الصندوق لم يجدوا فيه إلا ورقةً واحدةً مكتوبًا عليها: (الحل هو في الرجوع إلى الإسلام)!
إن الإسلام الذي نتواصَى دائمًا بالرجوع إليه خاصةً في أيام الفتن والمحن يتطلَّبُ أن نرتقي نحن إلى مستواه؛ لنتدبَّره ونفهمه، ونستخرج الدواء الناجِع منه، ولو كان الإسلام يحل مشكلاتنا بنفسه لما قال الله تعالى: (لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ) [النساء: 83]، فالذين يستنبِطُونه هم صِنفٌ من المؤمنين تميَّزُوا بالعلم حتى وصلوا إلى مقام الإرث النبوي: «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ»([5])، وهم الذين يقومون بعمليَّة الاستنباط التي لا يُتقِنُها غيرُهم.
المقدمة التاسعة:
نعم قد تمكَّن كثيرٌ من العلماء من استنباط الحلول الإسلامية لكثيرٍ من مشكلات العصر، خاصةً في مجال الاقتصاد، وبعض المستجدات الطبيَّة والصناعيَّة، لكنها لا تعدُو كونها حلولًا جزئيةً لا تُعين المسلم على بناء تصور كامل عن مشروع الحل الإسلامي، والإجابة الشافية عن الأسئلة الكبرى، وليس أدلَّ على هذا من الاضطراب الحادِّ في نمط التجارب الإسلامية، خاصةً تلك المتعلقة بإدارة الدولة، أو المشاركة فيها، أو الدفاع عنها، وكذا في إدارة المجتمعات، وبناء العلاقات الداخلية والخارجية.
الذي دفَعَني لهذا المرتقى الصعب، وحمَلَني على المسير في هذا الدرب رغم قلَّة المؤنة والزاد، وضعف العدَّة والعتاد - إضافةً إلى كل ما تقدَّم - ما وجدتُه من اضطرابٍ في فهم الآيات وتنزيلها، خاصَّةً في أيام الفتن والنوازل؛ حيث تكون كأنها أسلحة بأيدي مختصمين غاضبين، يتخاصمون عليها، ويتنابَزُون بها، وكلٌّ يراها في صفِّه ومع أهله وحزبه.
وزادَ من حالة الإرباك والارتباك ضعفُ اللغة المُعينة على فهم المفردات والسياقات، إن كان في قراءة الآيات، أو كتب التفسير المطوَّلات والمختصرات؛ مما جعل المتديِّنَ - فضلًا عن غيره - يأخذ تصوراته الأولى عن الحلول ومناهج العمل من بيئته الخاصَّة، وحاضنته القريبة فكريَّةً، أو سياسيَّةً، أو تنظيميَّةً، ثم يذهب إلى القرآن ليعضد رأيَه، وهذه طريقة معكوسة لا تُبرئ الذمَّة في الأخرى، ولا تُقرِّبُ الحلَّ في الدنيا.
من هنا توجَّهتُ - وأرجو أن يكون هذا من توفيقِ ربِّي - لسدِّ هذه الثغرة، مُحاولًا تقريب القرآن للغة العصر، بمنهجٍ عمليٍّ، ونظرةٍ شموليَّةٍ بنائيَّةٍ، مُضمِّنًا الأجوبة التي يشيع التساؤل عنها هذه الأوقات في مظانِّها من الآيات، تاركًا تفاصيل الاستنباطات الفقهيّة، والإشارات البلاغيّة، والمسائل الإعجازيَّة، ونحو ذلك إلى الثروة الهائلة التي سطَّرَها المفسِّرُون قديمًا وحديثًا، ففي ذلك غِنًى لطالب العلم الراغب في التدقيق والتوسُّع والازدياد.
إن هذه الإضافة لن تكون تكرارًا لما سبق، ولن تكون بديلًا عنه، بل هي إضافةٌ تُملِيها طبيعة العصر الذي نعيش فيه اليوم بخصوصياته وتحدِّياته، تجمعُ ما يحتاجُهُ اللاحِقُون إلى ما قاله السابقون، بطريقةٍ تراكميَّةٍ وبنائيَّةٍ.
وهذه صفة الاجتهاد المقبول في كلِّ بابٍ من أبواب العلم أصولها وفروعها، الاجتهاد الذي يبني ولا يهدم، ويوصل ولا يقطع، فكلّ كلمة في تراثنا العزيز هي محل الاحترام وإن كانت بحد ذاتها مرجوحة أو خاطئة، فالمعرفة النامية لا تؤسسها الأفكار الصائبة فقط، وإنما المراجعة والترجيح والتصويب هي التي تُكوِّنُ الذاكرة العلميَّة، والخبرة المعرفيَّة القادرة على التصحيح وضبط المسار المأمون نحو المستقبل الأفضل، وهكذا يكون كل اجتهاد بصوابه وخطئه إنما هو حلقة في هذه السلسلة المديدة، ولبِنَة في هذا البناء الشامخ.
هذا وقد اقتضَت طبيعةُ هذا الجُهد والغاية المتوخَّاة منه مع مُراعاة المقدِّمات السابقة، اعتِمادَ منهجٍ علميٍّ مُحدَّد يُمكن تلخيصُ ركائزه في الآتي:
أولًا: الانطِلاقُ من تشخيصٍ دقيقٍ لحاجةِ هذا الجيل إلى ما يُمكِنُه من فَهْم القرآن فهمًا يُعينُه على بناء شخصيّته الإسلاميّة، وتجديد هويّته ونظرته إلى الكون والحياة، وإلى هذا العالَم المتحرِّك من حوله، وامتِلاك الأجوِبَة المُناسِبة للأسئلة والتحدّيات الداخلية والخارجية، والتي باتَت تُلاحِقُه في كل شأنٍ من شُؤونِ حياته.
ثانيًا: الانطِلاقُ من فرَضيّة السياق الموضوعي الموحَّد للسورة، واتِّساق المسائل التي تُعالِجُها، ومن ثَمَّ اختيار العنوان الموحَّد لكل مجلسٍ، ثم ربط كل مجلسٍ بما قبله وبما بعده بحسب ما يَقتَضِيه السياق.
ثالثًا: اعتِماد الرؤية الشاملة لمُحكَمَات القرآن، وقِيَمه ومبادئه ومقاصده الكليّة؛ لتجنُّب الوقوع في أي تدبُّرٍ أو تفسيرٍ جزئيٍّ يُصادِم رسالةَ القرآن وغاياته الكبرى، فكل مُتشابِه ينبغي أن يُردَّ إلى المُحكَم، وكل فرعيٍّ ينبغي أن يُردَّ إلى أصله الكليِّ.
رابعًا: الاعتِمادُ أولًا على فَهم القرآن بالقرآن؛ إذ القرآن يُكمّل بعضُه بعضًا، ويُفسِّر بعضُه بعضًا بقواعده الكليّة، أو بآياته التفصيليّة، مع مُراعاة التطبيق النبوي والسياق التاريخي المُستنِد أساسًا إلى فَهم السيرة النبوية الشريفة، وما يُميِّز كلّ مرحلةٍ فيها عن مراحلها الأخرى؛ إذ إنَّ نزول القرآن الكريم مُنجَّمًا ومُفرَّقًا إنما كان بالأساس ليُواكِب حاجةً مًتجددةً ومُتغيّرةً بحسب تغيُّر الظروف المحيطة بهذه الدعوة المباركة.
خامسًا: الاستِهداءُ العلميُّ والموضوعيُّ بأقوال المفسِّرين على اختِلاف مناهجهم، من دون ذِكر هذه الأقوال ولا مُقارنتها؛ إذ إنَّ هذا - على أهميته - من شأنه أن يُخرِجَ الكتابَ عن خصوصيَّته المنهجيَّة والموجّهات التي ينطلِق منها، فالكتاب ليس كتابا مُوسَّعًا، ولا كتابًا مُقارنًا، كما إنه ليس كتابًا تخصُّصيًّا يُلبّي حاجة الباحثين المتخصصين في هذا العلم، أو العلوم المُلاصِقة والمُصاحِبة.
وبناءً عليه وعلى ما تمّ تأكيده أيضًا في المقدمات الموجَّهة، فإنه ليس مُتوقَّعًا من هذا الكتاب أن يتوسَّع في الدلالات اللغوية والبيانية، ولا في الاستنباطات الفقهية التفصيلية، ولا في مسائل الإعجاز العلميِّ ونحوه، ولا في مسائل الناسِخِ والمنسوخِ، وروايات أسبابِ النزول وغيرها، إلا بالقَدر الذي يُناسِبُ خصوصية هذا الكتاب، مع التنبُّه إلى أنّ هذا لا يعني التسطِيحَ في البحث والمعالجة، والاتِّكاء على المنهج الوعظي أو العاطفي المجرَّد، فإنَّ مُعالَجَة التحديات التي تُواجِهها الأمم في ميادينها المختلفة والإجابة عن أسئلتها الكبرى في الحياة، ودراسة أسباب نَكسَتها ومقوِّمات نَهضَتها، كل ذلك يتطلَّبُ منهجًا علميًّا رصِينًا، ونظرةً شاملةً كليّةً مع بحثٍ في غاية العُمق والدقة، وجُهدًا مُركَّزًا ومُتواصِلًا لا يقِلُّ عن الجهد الذي تتطلَّبُه المعالجات العلمية التخصصية والتفصيلية.
والواقع الذي تعيشُه أُمَّتُنا اليوم يشهَد بهذه الحقيقة، ويشهَدُ كذلك بالفراغ الكبير والخطير الذي تُعانِي منه أُمَّتُنا في هذا المجال، رغم ضخامة المصادر العلمية التخصصية، وكثرة المؤلَّفَات والبحوث المختلفة فيها.
سادسًا: بناءً على ما تقدَّم، فإنّ المتوقَّع من هذا الكتاب:
- تقديم تدبُّرٍ علميٍّ وعمليٍّ مُيسَّرٍ وسهلِ الفَهم بالنسبة لعامة القرَّاء، يُعينُهم على تصحيحِ حياتهم، وبناء شخصيّاتهم بما ينسَجِم مع رسالة القرآن ومقاصده الكليّة.
- إبراز منهج القرآن في بناء الأمة والمجتمع المسلم، وطريقته في إدارة المجتمعات، وحلّ مُشكلاتها، ورسم معالم النهوض لها.
- رسم الخارطة الكليّة لمنظومة القِيَم الإسلاميَّة، وبيان دورها في بناء الفرد والأسرة والمجتمع، وعلاقة هذه المنظومة بأركان الإيمان، وأحكام الشريعة التفصيلية، في تصوُّرٍ بنائيٍّ مُتكاملٍ بعيدًا عن القراءات المجزَّأَة، والاستِدلالات المقطَّعَة.
- مُعالجة القضايا المعاصرة في ضوء المقاصد الكليّة والمنظومة القِيَميَّة، والتجارِب الدعوية الثريَّة في القصص النبوي وغيره، إضافةً إلى الأدلة التفصيليَّة المباشرة.
- تيسير التدبُّر التفصيليِّ لكل آيةٍ أو كلمةٍ تحتاجُ إلى تفسيرٍ، وذلك في الفصل المُلحَق بكل مجلسٍ، والذي يأتي تحت عنوان (دقائِق التفسير)، مع مُلاحَظَة أن هذه الدقائِق إنما هي خُلاصة ما تتبَّعَه المؤلف - غفر الله له - في كتب التفسير، بما يرَاه راجِحًا ومُتناسِبًا مع منهجيَّة هذا الكتاب، وجُمهور المُخاطَبِين به.
المقدمة العاشرة:
وقد كان من نِعَمِ الله على كاتب هذه الكلمات أن هيَّأَ الله له صحبةً طيِّبةً، ومشاركةً طويلة في مجالس القرآن العامرة والمنتشرة في دولة قطر المحروسة، والتي تضمُّ حلقات دوريَّة أسبوعيَّة، كلما انتهت ختمةٌ بدأت ختمةٌ ثانية وهكذا، وقد قدَحَت في ذهني هذه المجالس فكرة (مجالس التدبُّر)؛ لتكون صنوًا ورديفًا لمجالس التلاوة.
فجاء هذا الجهد مُقسِّمًا للآيات على مقاطع، لكلِّ مجلس مقطع، مُراعيًا - قدرَ المستطاع - الوحدة الموضوعيَّة للمقطع؛ بحيث يتم المعنى دون توقف أو انتظار، وبما يقتضيه وقت المجلس المعتاد، ففي كلِّ مجلس هناك موضوع محوري يربط بين مجموعة الآيات هذه وبين التساؤلات الكبيرة المطروحة في مجتمعاتنا اليوم، ثم يتم التعريج في كلِّ مجلس على دقائق التفسير وما فيها من لطائف وفوائد.
وكما يصلح هذا التقسيم للمجالس المعروفة، فإنه يصلح كذلك للرجل مع أهل بيته، وللأمِّ مع أولادها، وللأصدقاء فيما بينهم، بمعنى: أن هذا الجهد قد راعَى الجانبَ التربويَّ العمليَّ، مع مُراعاته لحاجة التدبُّر العلمي الهادف.
وفي الختام:
فإذا كان التفسيرُ - كما أسلَفنا - نوعًا من الاجتهاد؛ فإن المجتهد لا تبرأ ذمته بعد إحضار النيَّة الصالحة إلا بشرطين: بذل الوسع من الجهد، وتوخِّي الأمانة في النقل والتحليل والاستنتاج، مع التنزُّه عن شبهة التحيُّز، ولوثة التعصُّب.
وهذا كله بيني وبين ربِّي، ويا ويل كاتب هذه الكلمات إن ردَّ الله عليه تعَبَه ونصَبَه لشهوةٍ نفسيَّةٍ، أو نعْرةٍ عصبيَّة، جعَلَتْه يَحرِف كلمات الله عن معانيها، ويشطُّ بها عن سياقها.
هذا وقد هيَّأ الله لي مَنْ ساعَدَني في بناء المنهجيَّة، والتنبيه على القواعد المرعيَّة، ثم المراجعة الأخيرة والشاملة الشيخَين الفاضِلَين: الشيخ الدكتور إبراهيم الأنصاري، سليل العلماء الصُّلَحاء، وصاحب الفقه الواسع، والنظر الثاقب والناقد، والشيخ الدكتور محمد المصلح ابن بيت القرآن، وصاحب العقل المنهجي المتميز.
أما الذي تولَّى المراجعة الدقيقة مضمونًا وأسلوبًا ولغةً فهو الشيخ الألمعي الدكتور وليد فائق الحسيني السامُرَّائي، خرِّيج المدارس الأصيلة، وصاحب الإجازات الجليلة.
جزاهم الله خيرًا على ما نصَحُوا وقدَّمُوا.
أما الذي يتحمَّلُ المسؤولية كاملةً عن كل خطأٍ، أو سهوةٍ، أو غفلةٍ، فإنما هو العبدُ الفقيرُ، وإخواني هؤلاء منه بَرَاء، وتبقَى حاجتي قائمة لهم ولغيرهم من المُحبِّين والناصحين للتذكير والدعاء؛ فإنما العلمُ رَحِمٌ بين أهله، والله يغفر لنا ولهم ولجميع المسلمين.
([1]) رواه الترمذي في «جامعه» (2950)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في «السنن الكبرى» (8084)، وأحمد في «مسنده»( 2069).
([2]) تكرر هذا النص الكريم ثلاث مرات في القرآن الكريم: سورة الرعد/ 4، وسورة النحل/ 12، وسورة الروم/ 24.
([3]) رواه البخاري (8، 4515)، ومسلم (16).
([4]) هذه النصوص الكريمة تكرَّرت في مواضع عديدة من كتاب الله تعالى.
([5]) رواه أبو داود : 3/354 والترمذي : 5/48 وابن ماجه : 1/81.