سورة يونس تفسير مجالس النور الآية 108

قُلۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۖ وَمَاۤ أَنَا۠ عَلَیۡكُم بِوَكِیلࣲ ﴿١٠٨﴾

تفسير مجالس النور سورة يونس

المجلس الثامن والثمانون: توجيهات ختامية


من الآية (99- 109)


في خواتيم هذه السورة يقدم القرآن توجيهاته المناسبة لموضوع السورة وما ورد فيها من مواقف وأحداث وحوارات:
أولًا: إن المشيئة المطلقة لله وحده ﴿وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَـَٔامَنَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِیعًاۚ﴾، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾، ﴿وَإِن یَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرࣲّ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥۤ إِلَّا هُوَۖ وَإِن یُرِدۡكَ بِخَیۡرࣲ فَلَا رَاۤدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ یُصِیبُ بِهِۦ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ﴾ وهذه العقيدة الراسخة من شأنها أن تُريح القلوب المؤمنة، وتبعث فيها الطمأنينة وهي ترى إصرارَ الكافرين على كفرهم، وتمادي الظالمين في ظلمهم، فالله تعالى قادرٌ - لا شكَّ - على تغيير هذه الأحوال، وتقليب هذه القلوب، لكن الذي يجري كلُّه يجري وفق سُنن الله وإرادته وحكمته.
ثانيًا: إن الإنسان هو المسؤول عن توجهاته واختياراته، وهذه المسؤولية هي مناط التكليف والاختبار، ولو تدخَّلَت الإرادة الإلهيَّة في تسييره لانتفَى مفهوم الاختبار من أساسه، ولمَا بقي فضلٌ لتقيٍّ على شقيٍّ، ولا لمجاهدٍ على قاعدٍ ﴿قُلۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۖ وَمَاۤ أَنَا۠ عَلَیۡكُم بِوَكِیلࣲ﴾، ﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ یَكُونُواْ مُؤۡمِنِینَ﴾.
ثالثًا: التذكير بما حصل في التاريخ البشري كلِّه من عواقب وخيمة للظالمين المعاندين، ونجاة للمظلومين الصالحين المصلحين ﴿فَهَلۡ یَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثۡلَ أَیَّامِ ٱلَّذِینَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ قُلۡ فَٱنتَظِرُوۤاْ إِنِّی مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِینَ ﴿١٠٢﴾ ثُمَّ نُنَجِّی رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ حَقًّا عَلَیۡنَا نُنجِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾.
رابعًا: الوصيَّة بالثبات والصبر، والمحافظة على الصفِّ المؤمن والجماعة المؤمنة رغم حملات التشكيك والإيذاء ﴿قُلۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِی شَكࣲّ مِّن دِینِی فَلَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِینَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنۡ أَعۡبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِی یَتَوَفَّىٰكُمۡۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ﴿١٠٤﴾ وَأَنۡ أَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾، ﴿وَٱتَّبِعۡ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیۡكَ وَٱصۡبِرۡ حَتَّىٰ یَحۡكُمَ ٱللَّهُۚ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ﴾.


﴿أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ یَكُونُواْ مُؤۡمِنِینَ﴾ استفهامٌ إنكاريٌّ، وتأصيلٌ عظيمٌ يربط بين الإيمان وحريَّة الاختيار؛ ذاك أن الإيمان عقيدة جازمة محلُّها القلب، والإكراه فيها غير مُتصوَّر؛ لأن المكرَه لو استجاب فإنه يستجيب بلسانه لا بقلبه، وهذا لا يسمى إيمانًا.
﴿وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾ بعلمه وتوفيقه، ووفق سننه الثابتة في الابتلاء والاختبار والتمييز.
﴿ٱلرِّجۡسَ﴾ العذاب.
﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ دعوة للنظر في هذا الكون الفسيح وما فيه من دلائل باهرة وآثارٍ جليلة تنطق بعظمة الخالق ورحمته وحكمته.
﴿وَمَا تُغۡنِی ٱلۡـَٔایَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمࣲ لَّا یُؤۡمِنُونَ﴾ لا يريدون الإيمان، ولو استبانَت لهم دلائله بسبب مواقف مُسبقة مبنيَّة على كِبْرٍ وحسدٍ وعداوةٍ للحقِّ وأهله، والنُّذُر جمع مفردها نَذِير، وفي آيات القرآن وقَصصه ما يكفِي من النُّذُر حتى تقوم الحجة على كلِّ منكرٍ معاندٍ.
﴿قُلۡ فَٱنتَظِرُوۤاْ إِنِّی مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِینَ﴾ فيه تهديدٌ ووعيدٌ، وثقةٌ مطمئنةٌ إلى وعد الله.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ حَقًّا عَلَیۡنَا نُنجِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ حقٌّ أوجبه الله على نفسه فضلًا وتكرُّمًا أن ينجي الرسل ومن آمن معهم من كلِّ عذابٍ عامٍّ يقع على أقوامهم بسبب تكذيبهم للرسل وصدِّهم عن سبيل الله، وهذه سنَّة تحقَّقَت في كلِّ القصص النبوي من نوحٍ، وإبراهيم، ولوط، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى عليهم وعلى نبيِّنا محمد أفضل الصلاة والسلام.
أما في غير هذه الصورة فالمؤمنون موكُولُون إلى سنَّة التدافع، ومستوى الأخذ بالأسباب، وإعداد العُدَّة، وحُسن الظن بالله غالِبٌ أن ينصر عباده المظلومين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
﴿وَلَـٰكِنۡ أَعۡبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِی یَتَوَفَّىٰكُمۡۖ﴾ خصَّ الوفاةَ هنا؛ تذكيرًا بمصير الإنسان الذي تزُول معه كلُّ الشهوات والرغبات، وهذا أَدعَى لتجريد الفكر، وتمحيص النظر، وتصفية القلب ليُدرِكَ الحقيقةَ كما هي من غير لَبسٍ، ولا غشاوة.
﴿وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ ولم يقل: لأكون مؤمنًا، في إشارةٍ لأهمية الكينونة مع الصف المؤمن والأمة المؤمنة.
﴿حَنِیفࣰا﴾ مُخلصًا له ومائلًا إليه دون سِواه.
﴿فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ﴾ فالله ﻷ لا يزيده إيمانُنا ولا هدايتُنا، وإنما يدعونا إلى ذلك لمحض منفَعَتنا نحن، وكذاك لا ينقصه كفرُ الكافرين، ولا ضلالُ الضالين ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۖ﴾ وإنما يُحذِّرنا من ذلك لمحض منفعتنا أيضًا، وهذا من عظيم رحمته بخلقه ـ.
﴿وَمَاۤ أَنَا۠ عَلَیۡكُم بِوَكِیلࣲ﴾ وما أنا بموكَّل على هدايتكم، فوظيفةُ الرسول التبليغ والبيان وإقامة الحجة، ثم الناس أحرارٌ فيما يرَون ويختارون، وهم بعد ذلك المسؤولون عن أنفسهم وما اختاروا لها.
﴿وَٱتَّبِعۡ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیۡكَ وَٱصۡبِرۡ﴾ إشارةٌ إلى أن اتباع الحقِّ يحتاج إلى الصبر؛ لكثرة دواعي الفتنة داخل النفس وخارجها.
﴿حَتَّىٰ یَحۡكُمَ ٱللَّهُۚ﴾ بينك وبين هؤلاء الكافرين المكذِّبين ﴿وَهُوَ خَیۡرُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ﴾.