سورة يونس تفسير مجالس النور الآية 40

وَمِنۡهُم مَّن یُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا یُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِینَ ﴿٤٠﴾

تفسير مجالس النور سورة يونس

المجلس الخامس والثمانون: حوار مع المشركين


من الآية (15- 44)


في هذه الآيات يسجل القرآن طريقة تفكير المشركين وهم ينأَون عن هذا القرآن ويُكذِّبون محمدًا ، والقرآن ما فتِئَ يحاورهم ويخاطب عقولهم وقلوبهم، ويمكن تلخيص هذا الحوار بالنقاط الآتية:
أولًا: المشركون يريدون قرآنًا غير هذا القرآن ﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَاتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ قَالَ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَیۡرِ هَـٰذَاۤ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ﴾ فيردُّ عليهم القرآن: ﴿قُلۡ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَاۤىِٕ نَفۡسِیۤۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّۖ إِنِّیۤ أَخَافُ إِنۡ عَصَیۡتُ رَبِّی عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ ﴿١٥﴾ قُل لَّوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَیۡكُمۡ وَلَاۤ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِیكُمۡ عُمُرࣰا مِّن قَبۡلِهِۦۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ﴿١٦﴾ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔایَـٰتِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ﴾.
ونلحظ هنا أن القرآن يطيل معهم الحديث، ويعمل على إزالة الغَبش عن عيونهم، مع أن مطلبهم هذا لا يخلو من سفاهةٍ ووقاحةٍ، فأيُّ قرآن ذاك الذي سيُؤمنون به إذا كان من مقترحاتهم وعلى وفق أهوائهم؟
لكن القرآن يُعلِّمُنا أن لا نُهمِلَ قول المخالف ما دام أنه رضِيَ أن يُكلِّمنا ونُكلِّمه، والله أعلم.
ثانيًا: المشركون يختارون شفعاءهم عند الله ﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ﴾ فيرد عليهم القرآن: ﴿قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ فالذي يتوسَّل إلى ذي سلطان يتوسَّل إليه بالمقرَّبين منه وبمن هم محل الرضا عنده، ويكون التشفُّع بالصيغة التي يرضاها السلطان أيضًا، أما أن يختار هو الشفيع الذي يراه دون علمٍ ولا إذنٍ، ويختار أيضًا صيغة التشفُّع التي قد تُغضب السلطان، فهذه سفاهةٌ مردودةٌ، هذا في شفاعات البشر، فكيف بمن يريد التشفُّع إلى الله؟
ثالثًا: المشركون يطلبون المعجزات ﴿وَیَقُولُونَ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ﴾ كأن يكون معه ملَك، أو تنزل عليه كنوز الذهب، أو يزيح عنهم جبال مكة، وهذه المطالب ليست جادَّة، وإنما هي مُماحَكَات، وفيها شيءٌ مِن الاستهزاء والسخرية، وإلا فإن ما جاء به النبيُّ من القرآن الكريم ثم من الدلائل والمعجزات الحسيَّة يكفيهم؛ ولذلك ردَّ عليهم القرآن: ﴿فَقُلۡ إِنَّمَا ٱلۡغَیۡبُ لِلَّهِ فَٱنتَظِرُوۤاْ إِنِّی مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِینَ﴾، بمعنى: أنه يُهدِّدهم ويتوَّعدهم، ثم أردَفَ: ﴿وَإِذَاۤ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةࣰ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّاۤءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرࣱ فِیۤ ءَایَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ﴾ وهذا تأكيدٌ لما تقدَّم من وعيدٍ وتهديدٍ يتناسَب مع صَلافَتهم وسَفاهَتهم.
رابعًا: القرآن يستنطِق فِطرَتهم ﴿هُوَ ٱلَّذِی یُسَیِّرُكُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا كُنتُمۡ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَیۡنَ بِهِم بِرِیحࣲ طَیِّبَةࣲ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاۤءَتۡهَا رِیحٌ عَاصِفࣱ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانࣲ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمۡ أُحِیطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ لَىِٕنۡ أَنجَیۡتَنَا مِنۡ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ﴾، واستِنطاق الفطرة أسلوبٌ قرآنيٌّ متكرِّر، وهو يختار اللحظة التي يتجرَّد فيها الإنسان عن حَوله وقوته وجَاهِه وسلطانه؛ بحيث يكون أمام قدَرِه المحتوم وجهًا لوجه، هناك يظهرُ الإنسان على حقيقته بلا بهرجٍ ولا قناعٍ، وهناك تتكشَّف الفطرة التي أودعها الله في كينونة هذا الإنسان.
خامسًا: القرآن يخاطب عقولهم ﴿قُلۡ مَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن یَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَمَن یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَیُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّ وَمَن یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَیَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَـتَّـقُونَ﴾ فهذه دلائل التدبير والتقدير والتنسيق بين ذرَّات هذا الكون ومفرداته الهائِلة والمتنوعة كلّها تُحتِّم على العقل أن يستسلم للقوة العُظمى المهيمنة على كل هذا، وهذه القوة لا يمكن أن تكون في فراغٍ، وإنما هي الألوهيَّة الحَقَّة ﴿فَذَ ٰ⁠لِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَـٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ﴾.
سادسًا: القرآن يتحدَّاهم في الخلق ﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥۚ﴾ وهذا التحدِّي قائمٌ إلى قيام الساعة، فلا الإنسان، ولا ما اتخذ من آلهةٍ وشفعاء، ولا ما توصَّل إليه من صناعةٍ وعلمٍ وحيلةٍ بقادرٍ أن يدَّعِي ولو مجرَّد دعوى أنه هو من بدأ هذا الخلق؛ إذ الإنسان مع كلِّ ما توصَّل إليه لَيفخَر إذا تمكَّن أن يُحلِّل بعض مفردات الخلق أو يكشف أسرارها، فكيف يدَّعِي أن له يدًا في خلقها واختراعها؟! أما الأصنام والأوثان على اختلافها فإنها أضعف وأضعف من الإنسان نفسه.
سابعًا: القرآن يتحدَّاهم في الوحي والهدي ﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ ۚ قُلِ ٱللَّهُ یَهۡدِی لِلۡحَقِّ ۗ﴾. ﴿وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ أَن یُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَتَفۡصِیلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا رَیۡبَ فِیهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٣٧﴾ أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةࣲ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ واقتران هذا التحدِّي بالهداية إلى الحقِّ وتفصيل الكتاب فيه دعوةٌ للنظر في خصائص القرآن العلميَّة والعقديَّة والتشريعيَّة؛ كونها تحمل دلائل يقينيَّة على أن هذا الكتاب كلامُ الله لا يأتِيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهذه المعاني التي جاء بها القرآن مُدرَكة للناس كافَّة، العرب وغير العرب، بخلاف الإعجاز البياني الذي لا يُدرِكه إلا من يُحسِن العربية.
ثامنًا: القرآن يُحذِّرهم العواقِب ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡیُكُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۖ مَّتَـٰعَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ ثُمَّ إِلَیۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾، ﴿هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّاۤ أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَفۡتَرُونَ﴾، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَیۡـࣰٔا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾.
تاسعًا: القرآن يكشف أسباب الزيغ والضلال:
- الغرور بالدنيا وغياب التفكير في الآخرة وما بعد الموت ﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَاتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ قَالَ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَیۡرِ هَـٰذَاۤ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ﴾.
- الانغِماس في الراحة والترف والغفلة عن حاجة المخلوق إلى خالقه ﴿وَإِذَاۤ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةࣰ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّاۤءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرࣱ فِیۤ ءَایَاتِنَاۚ﴾، ﴿فَلَمَّاۤ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ یَبۡغُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ ۗ﴾، ﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا﴾.
- تعطيل منافذ المعرفة ﴿أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا یَعۡقِلُونَ﴾، ﴿أَفَأَنتَ تَهۡدِی ٱلۡعُمۡیَ وَلَوۡ كَانُواْ لَا یُبۡصِرُونَ﴾.
- الجهل، وهو نتيجةٌ لازمةٌ لما قبله ﴿وَمَا یَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ﴾. ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ یُحِیطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا یَأۡتِهِمۡ تَأۡوِیلُهُۥۚ﴾.
- التقليد الأعمى لأئمة الشرك والضلال ﴿وَیَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِیعࣰا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِینَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَاۤؤُكُمۡۚ فَزَیَّلۡنَا بَیۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَاۤؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِیَّانَا تَعۡبُدُونَ ﴿٢٨﴾ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدَۢا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَـٰفِلِینَ﴾، ﴿أَفَمَن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن یُتَّبَعَ أَمَّن لَّا یَهِدِّیۤ إِلَّاۤ أَن یُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾.
عاشرًا: القرآن يفتح لهم بابًا للسلام والسعادة والخير ﴿وَٱللَّهُ یَدۡعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَـٰمِ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ ﴿٢٥﴾۞ لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِیَادَةࣱۖ وَلَا یَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرࣱ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾.


﴿ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَیۡرِ هَـٰذَاۤ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ﴾ فالقرآن لا يُعجِب هؤلاء القوم الفاسدين؛ لأنه يَحرِمهم من مكاسبهم التي اكتسبوها ظلمًا وعدوانًا على عباد الله والمستضعفين من الخلق، وهذا هو دَيدَنُ أهل الباطل، لا يقبَلُون بأهل الحقِّ إلا أن يتنازل أهل الحقِّ عن حقِّهم.
﴿قُلۡ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَاۤىِٕ نَفۡسِیۤۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّۖ﴾ فالحقُّ الذي نحمله وندعو إليه ليس آراء شخصية، ولا مشاريع حزبيَّة، إنه دينٌ ووحيٌ، فمن غيَّر أو بدَّل فقد خانَ الأمانة، وتعدَّى على الحقِّ ﴿إِنِّیۤ أَخَافُ إِنۡ عَصَیۡتُ رَبِّی عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ﴾ وفي هذا وعيدٌ شديدٌ لأهل العلم والفتوى ممن يتقرَّبون إلى الناس بتزيين الباطل وتشويه الحقِّ.
﴿قُل لَّوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَیۡكُمۡ وَلَاۤ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِیكُمۡ عُمُرࣰا مِّن قَبۡلِهِۦۤۚ﴾ بمعنى: أني بقِيتُ معكم أربعين عامًا ولم أُحدِّثكم بشيءٍ، ولو شاء الله لحَجَبَ عني وعنكم هذا الوحي، فلا أنا أتلُوه عليكم، ولا أنتم تدرُون عنه شيئًا.
﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔایَـٰتِهِۦۤۚ﴾ وعيدٌ شديد للطرفين؛ من يكذب على الله بتغيير الحقِّ وتزييف الدين والفتوى، ومن يُكذِّب بالحقِّ ويتنكَّر له بعدما قامت بيِّنته وظهرت حجته.
﴿وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّاۤ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ فَٱخۡتَلَفُواْۚ﴾ بسبب بدعة الشرك، وإلا ففطرة الناس واحدة، ودلالة التوحيد قائمة، فالتوحيد أصلٌ، والشرك طارئٌ.
﴿وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡ فِیمَا فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ﴾ فسنَّة الله في خلقه إمهالهم إلى يوم الدين وهو يوم الجزاء، ولولا هذه السنَّة الثابتة لحكم الله اليوم بين المختلفين؛ الموحِّدين والمشركين.
﴿لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۖ﴾ خارقة ظاهرة، كناقة صالح، وعصا موسى، وهم إنما أرادوا آيةً على هواهم، كإزاحة جبال مكة وتحويلها إلى جنان وينابيع.
﴿إِذَا لَهُم مَّكۡرࣱ فِیۤ ءَایَاتِنَاۚ﴾ للصدِّ عنها، أي: عن القرآن، بمختلف الوسائل الظاهرة والباطنة.
﴿إِنَّ رُسُلَنَا یَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ﴾ فالملائكة يُحصُون على ابن آدم كلَّ عملٍ صغيرًا كان أو كبيرًا.
﴿یُسَیِّرُكُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ﴾ خلق لكم ما يحملكم على البرِّ وعلى البحر.
﴿وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمۡ أُحِیطَ بِهِمۡ﴾ جاءهم الهلاك من كلِّ صَوب.
﴿مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ﴾ يذكرون الله وحده وينسون أصنامهم.
﴿إِنَّمَا بَغۡیُكُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۖ﴾ فعاقبة البغي إنما ترجع على الباغي.
﴿مَّتَـٰعَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ﴾ غاية ما ترجونه من البغي هو تمتعكم في هذه الدنيا الزائلة.
﴿كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ من فوق، وقد وهم من فسَّر السماء هنا بالفلك المعروف؛ لأن الله قال في آية أخرى: ﴿وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ [البقرة: 164].
﴿فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ﴾ كثر النبات وتنوَّع حتى اختلط بعضه ببعض؛ بسبب كثرة الماء النازل من السماء.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ﴾ تزيَّنَت بكثرة النبات واختلاف أشكاله وألوانه حتى أصبحت كلوحة مُزخرَفة.
﴿قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ﴾ مُتمكِّنُون من تحصيل منافعهم فيها، وجَنْي ثمارها وحصاد سنبلها.
﴿أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا﴾ قضَينا بهلاكها.
﴿حَصِیدࣰا﴾ كأنها محصودة، فليس فيها حَبٌّ ولا ثمر.
﴿كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ﴾ لم تكن ولم تعمَّر، والمغاني: المنازل، والآية وإن كانت في الزرع إلا أنها أعمُّ من ذلك، فهيمنةُ البشر على الأرض بالصناعة والعلم لن تبقَى إلى أبد الآباد، فيوم الساعة آتٍ، وهو قضاء الله الذي لا مردَّ له مهما ظن الناس أنهم قادرون على أرضهم ومتمكِّنون من تسخيرها وتذليل صعابها.
﴿دَارِ ٱلسَّلَـٰمِ﴾ الجنة.
﴿۞ لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ﴾ الذين أحسَنوا العمل لهم الحُسنى وهي الجنة، وأما الزيادة فتبدأ بمضاعفة الحسنات، وتنتهي بالقُرب من المولى الجليل والنظر إلى وجهه الكريم، فذلك هو النعيم الأجَلُّ الذي يلِيق بالأكابر من الناس، وهو الذي لا يُدانيه نعيم الحور والقصور.
ومن قاس الآخرة على الدنيا والخالق على المخلوق فقد زلَّت به قدمه، فالنظر هناك ليس كنظر المخلوق إلى المخلوق، بل هو بالكيفيَّة التي تُناسِب ذلك المقام، والله أعلم.
﴿وَلَا یَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرࣱ﴾ لا يغشاهم سواد الدخان، لا ماديًّا بدخان جهنم، ولا معنويًّا بسواد الخيبة والخزي، بخلاف الآخرين ممن قال فيهم: ﴿كَأَنَّمَاۤ أُغۡشِیَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعࣰا مِّنَ ٱلَّیۡلِ مُظۡلِمًاۚ﴾ والعياذ بالله.
﴿مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَاۤؤُكُمۡۚ﴾ الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم حتى يقضي الله فيكم، والشركاء هنا هم الآلهة المزيَّفة التي اتخذها المشركون شركاء مع الله، وأضافها إليهم؛ لأنها مِن صَنْعَتهم، فهم الذين اتخذوها آلهة وما هي بآلهة.
﴿فَزَیَّلۡنَا بَیۡنَهُمۡۖ﴾ فرَّقْنا بينهم، وقطعنا ما كان بينهم من تواصل.
﴿وَقَالَ شُرَكَاۤؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِیَّانَا تَعۡبُدُونَ﴾ إذ العبادة الطاعة والخضوع لأمر المعبود، وهذه الآلهة لم يصدُر منها أمر، فالمشركون إنما يعبدون أهواءهم على الحقيقة ولا يعبدون أصنامهم، وهذا شأنُ أكثر المشركين؛ كمن يعبد المسيح، أو يسجد لقبر الحسين، فهؤلاء الصالحون مبرَّؤون من عبادة هؤلاء.
أما نطق الأصنام بهذه الحقيقة فلا يبعد أن يُودِع الله فيها القدرة على النطق في ذلك اليوم الذي تتبدَّل فيه النواميس، وتتغيَّر فيه الأسباب، والله أعلم.
﴿إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَـٰفِلِینَ﴾ فلا نسمع عبادتكم ولا نراها ولا نعقلها.
﴿هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّاۤ أَسۡلَفَتۡۚ﴾ تعلم كلُّ نفسٍ ما قدمت، وأصل ﴿تَبۡلُواْ﴾ الفحص والاختبار والتمييز.
﴿وَمَن یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ﴾ شأن الدنيا والآخرة.
﴿فَسَیَقُولُونَ ٱللَّهُۚ﴾ لأن المشركين لا ينسبون الخلق والتدبير لأصنامهم، بل دخل عليهم الشرك من باب الشفاعة والوساطة.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ حَقَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِینَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ وفق سننه تعالى، فمن طلب الهداية هُدِي، ومن طلب الضلالة ضَلَّ.
﴿قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥۚ﴾ فالذي لا يقدر على الخلق بدايةً لا يقدر عليه إعادةً.
﴿لَّا یَهِدِّیۤ﴾ لا يهتدي بنفسه، فالصنم لا يستطيع أن ينتقل بنفسه من مكانٍ إلى مكانٍ إلا أن يحمله أو يدفعه أتباعه، فكيف يقدر بعد ذلك أن يهديهم هو إلى الصراط المستقيم؟
﴿تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ﴾ مصدِّقًا للكتب التي قبله.
﴿وَتَفۡصِیلَ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ أخباره وأمره ونهيه.
﴿فَأۡتُواْ بِسُورَةࣲ مِّثۡلِهِۦ﴾ أعظم التحدي وأشدُّه على المشركين؛ إذ تحدَّاهم أن يأتوا بمقدار سورة من سور القرآن تُجاري القرآن في لغته وأسلوبه وبيانه، وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، فعجزوا، وفائدة عجزهم دحض ادِّعائهم أن هذا القرآن من صُنع محمد ؛ إذ لو كان من صنعه ما عجزوا أن يأتوا بمثله.
﴿وَلَمَّا یَأۡتِهِمۡ تَأۡوِیلُهُۥۚ﴾ لم يروا بعدُ عاقبة تكذيبهم لهذا القرآن، وسيرون، والتأويل هنا المآل، وهذا القول أَولَى من قول من قال إنهم كذَّبوا به قبل أن يفهموا تفسيره، وقبل أن يسألوا عن معانيه؛ لأن المخاطبين به في ذلك الوقت كانوا في أعلى درجات البيان والفصاحة، فلا يحتاجون إلى تفسيرٍ ولا إلى ترجمان، والله أعلم.
﴿وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُونَ إِلَیۡكَۚ﴾ جاء بصيغة الجمع على معنى اسم الموصول ﴿مَّن﴾ إذ المقصود به هنا الجمع، وهذا الاستماع لا يوصل إلى الهداية؛ لأنه استماع بغرض الاطلاع لا الانتفاع، على عادة المتكبِّرين والمُفسِدين؛ ولذلك عقَّبَ بقوله: ﴿أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا یَعۡقِلُونَ﴾ وهو صمم الغفلة والتكبُّر والتعالي عن الحقِّ.
﴿وَمِنۡهُم مَّن یَنظُرُ إِلَیۡكَۚ﴾ جاء بصيغة المفرد على لفظ اسم الموصول ﴿مَّن﴾ إذ لفظه مفرد، وإن كان معناه جمعًا، وعليه فالصلةُ يصحُّ أن تأتي هنا مفردة مراعاةً للفظ، أو تكون مجموعة مراعاةً للمعنى.
واختيارُ الإفراد للنظر بخلاف السمع فيه أكثر من إشارة؛ فالمبُغِض لا يحبُّ أن يرى بغيضَه، لا سيما إذا كان بحالةٍ حسنةٍ، وهيئةٍ محترمةٍ، لكنه في الوقت نفسه يحبُّ أن يسمع عنه كلُّ شيء، فالمشركون يستمِعون إلى رسولِ الله ويتتبَّعُون أقوالَه وأخبارَه ﴿وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُونَ إِلَیۡكَ﴾ إشارة للكثرة، لكنه إن حضَرَ تغافَلُوا وأعرَضُوا عنه ﴿وَمِنۡهُم مَّن یَنظُرُ إِلَیۡكَ﴾ إشارة للقلة.
ومنها: أن النظر محدد من جهة واحدة؛ فالذي ينظر ينبغي أن يكون قبالة المنظور، بخلاف السمع؛ إذ قد يكون من خلفه أو من جانبه أو من مكانٍ خفيٍّ بحيث لا يراه أصلًا، كما يفعل المتجسِّسون، والله أعلم.
﴿أَفَأَنتَ تَهۡدِی ٱلۡعُمۡیَ وَلَوۡ كَانُواْ لَا یُبۡصِرُونَ﴾ والعُميُ هنا هم أنفسهم الذين ينظُرون إلى رسول الله ، فهم عُميٌ عن الحقيقة وإن كانوا يرَون الشكلَ، وعمَى البصيرة أشدُّ وأضرُّ من عمى البصر.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَیۡـࣰٔا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾ تأكيدٌ أن المسؤوليَّة هي مسؤوليَّة البشر، وأن قَدَرَ الله ليس معناه الإكراه، بل هي سُنن الله العادِلة التي لا تتخلَّف، ولا تُحابِي أحدًا على أحدٍ.