سورة العصر تفسير مجالس النور الآية 1

وَٱلۡعَصۡرِ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة العصر

المجلس السادس والتسعون بعد المائتين: شروط النجاة


سورة العصر


تتناول سورة العصر شروطَ النجاة بعد أن حذَّرت الإنسان من مصيره الخاسر إن لم ينتَبِه لنفسه ويَسْعَ بخلاصها، هذا هو موضوع هذه السورة، فهي تستهلُّ بهذا التحذير الشديد: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ﴿١﴾ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ﴾ ثم تضَع شروطَ النجاة كما يأتي:
أولًا: الإيمان ﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ﴾ ومعناه: التصديق الجازم بأركان الإيمان المعروفة؛ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيرِه وشرِّه.
ثانيًا: العمل الصالح ﴿وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾ وأقلُّه: إبراء الذِّمَّة بفعل الواجبات، وترك المُحرَّمات، ثم فوق ذلك درجات من الترقِّي في سلَّم القُربات والمندوبات، والتحلِّي بأكرم الصفات، والتنزُّه عن الدناءات والمكروهات.
ثالثًا: التواصِي بالحقِّ ﴿وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ﴾ وأقلُّه: أمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر بقَدر المستطاع، وتعليمٌ لمن تحت ولايته على الدين وحسن الاتِّباع، وفوق ذلك درجات ترتقي إلى وراثة الوظيفة النبويَّة في العلم وتبليغه، وحلّ مشاكل الحياة في ضوئه، وإرشاد السائرين ودعوة الغافلين.
رابعًا: التواصِي بالصبر ﴿وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾ وأقلُّه: حمل النفس، ونُصح من يلزَم نُصحه بالصبر على الواجبات، بمعنى: الثبات عليها، والصبر عن المحرَّمات، بمعنى: الابتِعاد عنها وعدم التشوُّف لها، والصبر على المقدُورات، بمعنى: ضبط النفس عن الجَزَع المُفضِي إلى السخط والكفران، ثُمّ فوق ذلك تكون الدرجات العُلا في الصبر على مجاهدة النفس، وتحمُّل مِحَن الدعوة، وتكلفة الجهاد، وكلّ ما يتَّصِل بالشأن العام؛ من دفع الظلم، وإقامة العدل، فكلّ ذلك بحاجةٍ إلى العزم والصبر.
خامسًا: وقد تضمَّنَت الآيات شرطًا ضمنيًّا، وهو التعاوُنُ والتكاتف والتكافل بين أهل الحقِّ؛ فكلّ الشروط الأربعة جاءت مسندةً إلى واو الجماعة، والجماعة هي الأُمَّة المؤمنة، فلا بُدّ من إعلان الانتماء لها، والعمل معها وفي صالحها، إضافةً إلى أنَّ فعل التواصِي لا يتحقَّق إلَّا بالمشاركة والتفاعل مع الناس، والله أعلم.


﴿وَٱلۡعَصۡرِ﴾ يُقسِمُ الله تعالى بوقت العصر، وهو الوقت المعروف بين انتهاء وقت الظهر إلى غروب الشمس، وهو الوقت الذي يتهيَّأ الناس فيه للانتهاء مِن أعمالهم والتوجُّه إلى سكَنهم وراحَتهم، فهو بين وقت العمل ووقت الخلود إلى النوم، وهو الوقت الأنسَب للزيارات، وتوطيد العلاقات، ومِن ثَمَّ كان مُناسِبًا للتذكير بالتواصِي والتناصُح بالحقِّ وبالصبر.
﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ﴾ هذا جواب القسَم، وقد اجتمع في تأكيد معناه عِدَّة مؤكِّدات: أولها: القَسَمُ، وثانيها: حرف إنّ، وثالثها: (أل) التعريف، وهي للاستغراق؛ بمعنى أنَّها تُفيد العموم لكلِّ أفراد الإنسان إلَّا من استَثنَتْهم السورة فيما بعد، ورابعها: حرف اللام في ﴿لَفِی﴾ فهي للتأكيد أيضًا، واجتماع هذه المؤكِّدات تحفيزٌ للعاقل أن يُفكّر بجدٍّ في مصيره وعاقبة أمره، وسبيل خلاصه.
﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾ قدَّم الإيمان؛ لأنَّه الأصل، فلا يتصوَّر العمل الصالح المقبول عند الله من دون إيمانٍ، وأخَّرَ العمل عنه؛ لأنَّه ثمرته، وعَطْفُ العمل على الإيمان يُفيد أنَّ العمل من لوازم الإيمان وثمراته، وليس من أركانه؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايَرَة، والله أعلم.
﴿وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ﴾ لأنَّ الإيمان والعمل الصالح مهما بلَغَ إن لم يكن معه عملٌ لنَشره وتعليمه، وتثبيت الناس عليه، فإنَّه سيُحاصَر ويضعُف ويغلبه الباطل.
﴿وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾ لأنَّ التواصِي بالحقِّ يُعرِّض المُتواصِين لعداوة أهل الهوى والضلال، فكان لا بُدَّ من التدرُّع بالصبر والتواصِي به أيضًا.