سورة الفيل تفسير مجالس النور الآية 1

أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة الفيل

المجلس السابع والتسعون بعد المائتين: أصحاب الفيل


سورة الفيل


تتناول هذه السورة حدثًا عظيمًا وقع قبل البعثة المحمّديَّة؛ يتلخَّص في أنَّ أبرهة الحبشي كان قصد الكعبة المشرفة بجيشٍ كبيرٍ، بقصد هدمها وتحويل العرب عنها إلى دارٍ أخرى بناها ليجمع العرب حوله، ويفرض عليهم سلطانه، ولم يكن في قريش وقبائل العرب مَن يَقوَى على صدِّه ومَنعِه، فتولَّى الله أمرَ حماية بيته الحرام، فنزَلَت هذه السورة تُذكِّر النَّاس بذلك الحَدَث العظيم، وآياته الدالَّة على وحدانيَّة الخالق وعظمته وقدرته ﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ ﴿١﴾ أَلَمۡ یَجۡعَلۡ كَیۡدَهُمۡ فِی تَضۡلِیلࣲ﴾.
وكان مِمَّا سلَّطه الله على جيش أبرهة طيورٌ رَمَت جُندَه بحجارةٍ مخصوصةٍ حتى أهلَكَتْهم عن آخرهم ﴿وَأَرۡسَلَ عَلَیۡهِمۡ طَیۡرًا أَبَابِیلَ ﴿٣﴾ تَرۡمِیهِم بِحِجَارَةࣲ مِّن سِجِّیلࣲ ﴿٤﴾ فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفࣲ مَّأۡكُولِۭ﴾.
لقد جاء التذكيرُ بهذا الحَدَث؛ تنبيهًا لعقول أهل مكَّة أنَّ أصنامهم هذه التي يعبدونها من دون الله لم تكن لتدفع عنهم عدوان أبرهة وفِيله وجنده، وأنَّ الله الذي حمَى بيته الحرام قادرٌ على أن يحمِي دينَهُ ونبيَّهُ وعبادَهُ المؤمنين، وفيه أيضًا تأكيد ارتباط هذه الأُمَّة المحمّديَّة بهذه البقعة المباركة؛ فهي جزءٌ مِن هويَّتِهم وعقيدتِهم، وشعائرِ دينِهم.
ويلحظ هنا أيضًا أن تعليق القرآن على هذا الحدث قد خَلَا من الإشارة إلى أنَّ الكعبة في ذلك الوقت كانت تعُجُّ بالأصنام، وفي هذا تعليمٌ للأُمَّة بطريق الإشارة أنَّ دفع العدو الصائِل الذي يُريد مسحَ معالم الأرض وتغيير هويتها مُقدَّمٌ على معالجة الأمور الداخلية مهما كان خطرها؛ فالحفاظ على الأرض والناس ضرورةٌ حتى تأتي الفرصة المناسبة للإصلاح، وهكذا كان أمر مكَّة، فالله حماها رغم ما فيها من أصنامٍ وجاهليَّةٍ جَهلاء حتى جاء وقت البعثة المُحمَّديَّة.
ويُشبِهُ هذا: موقف هارون مع بني إسرائيل لما عبَدُوا العِجْل، فلم يُفارقهم، وحينما عاتَبَه أخوه موسى عليهما السلام ردَّ عليه بقوله: ﴿إِنِّی خَشِیتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَیۡنَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ [طه: 94]، بمعنى أنَّه أراد الحفاظ عليهم حتى يرجِع إليهم موسى؛ فهو الأقدَر على إصلاحهم، وقد سكَتَ موسى، وأقرَّ الله هارُون على حكمته هذه، وهذا درسٌ دقيقٌ ونفيسٌ في إدارة المجتمعات، وترتيب الأولويات، وربط الغايات بالمقدِّمات، والله أعلم.


﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ﴾ الاستِفهام هنا تقريرِيٌّ لتواتر القصّة ومعرفة أهل مكَّة بها مَن حضر ومَن لم يحضر، فنزَلَ ذلك العِلم منزلة الرؤية، وأصحابُ الفيل: هم جيش أبرهة الحبشي، واستعمال الفيل في القتال لم تعهَده العرب، بل هو من صَنيع الفرس والأحباش؛ ولذلك اشتَهَرَت الوقعة باسم الفيل.
﴿أَلَمۡ یَجۡعَلۡ كَیۡدَهُمۡ فِی تَضۡلِیلࣲ﴾ أي: في ضلالٍ وضياعٍ، رغم كثرتهم، وقوَّة جيشهم، واستِسلام العرب لهم.
﴿وَأَرۡسَلَ عَلَیۡهِمۡ طَیۡرًا أَبَابِیلَ﴾ كلمة طير تُطلَقُ على المفرد، وعلى الجمع، والمقصود بها هنا الجمع، والأبابيل اسم جمعٍ لا مفرد له، وهو بمعنى: جماعات، والأصل فيها أنَّها طيور على الحقيقة، ومن تأوَّلَها بالأمراض والجراثيم فقد أغرَبَ وتكلَّف التأويلَ بلا مسوِّغٍ إلَّا الاستِبعاد، والاستبعاد لا محلّ له هنا؛ لأنَّ المقام مقام بيان آيات الله وإعجازه لخلقه، وقدرةُ الله لا يحدُّها حدٌّ ولا سدٌّ.
﴿تَرۡمِیهِم بِحِجَارَةࣲ مِّن سِجِّیلࣲ﴾ مخصَّصة لهم، وقد وردَ ذِكر هذه الحجارة في قصة لوطٍ عليه السلام: ﴿وَأَمۡطَرۡنَا عَلَیۡهَا حِجَارَةࣰ مِّن سِجِّیلࣲ مَّنضُودࣲ﴾ [هود: 82]، فدلَّ أنَّها من الحجارة المُعدَّة لإهلاك المُفسِدين، والله أعلم.
﴿فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفࣲ مَّأۡكُولِۭ﴾ أي: كبقايا الزرع الذي داسَتْه الدوابُّ وأكَلَتْه حتى ترَكَتْه مُهشَّمًا مُبَعثَرًا، وهي صورةٌ لجيش أبرهة بعد أن أهلَكَتْه هذه الحجارة، والله أعلم.