سورة هود تفسير مجالس النور الآية 26

أَن لَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّا ٱلـلَّـهَۖ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمٍ أَلِیمࣲ ﴿٢٦﴾

تفسير مجالس النور سورة هود

المجلس التسعون: نوح


من الآية (25- 49)


تكررت قصة نوح عليه السلام في القرآن الكريم كثيرًا، لكنها في هذه الآيات جاءت لتشرح جوانب أخرى من هذه التجربة المبكِّرة في عمر الدعوة، وبتفصيل يتناسب مع حاجة الدعوة المكية إلى فهم طبيعة الشرك وطريقة تفكير المشركين والمآلات المحتملة لهذا الصراع، ومن ناحية أخرى فالقصة كلها وكذاك القصص التالية لها جاءت تفريعا لخاتمة المقطع السابق ﴿۞ مَثَلُ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِیرِ وَٱلسَّمِیعِۚ﴾.
أولًا: نوح عليه السلام يشرح قضيته، وهذا الشرح الذي نقرؤه في هذه الآيات ربما استغرق قرونا، ولكنها طريقة القرآن في إيجاز الحدث وتقديم النموذج العملي الصالح للتأسي والاعتبار:
- أساس دعوته التوحيد ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦۤ إِنِّی لَكُمۡ نَذِیرࣱ مُّبِینٌ ﴿٢٥﴾ أَن لَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّا ٱلـلَّـهَۖ﴾.
- أنه ناصح لقومه، يحب لهم الخير ويخاف عليهم العذاب ﴿إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمٍ أَلِیمࣲ﴾، ﴿وَلَا یَنفَعُكُمۡ نُصۡحِیۤ إِنۡ أَرَدتُّ أَنۡ أَنصَحَ لَكُمۡ﴾ وقد تكرَّر منه خطابه لهم: ﴿یَـٰقَوۡمِ﴾ بمعنى يا قومي، وهو خطاب تودُّد وتقرُّب.
- أن دعوته مبنية على علم وبصيرة وحجة ظاهرة ﴿قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّی وَءَاتَىٰنِی رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِهِۦ﴾ وقد أخذ وقتا طويلا معهم في المجادلة ﴿قَالُواْ یَـٰنُوحُ قَدۡ جَـٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَ ٰ⁠لَنَا﴾.
- أن دعوته نظيفة اليد، نزيهة من كل غرض، لا يبتغي بها إلا وجه الله وإنقاذهم مما هم فيه ﴿وَیَـٰقَوۡمِ لَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ﴾.
- أنه لا يفرّق بين شريف ووضيع، ولا بين كبير وصغير في هذه الدعوة، فهي دعوة لهذا الإنسان كيفما كان، وعلى أي طبقة أو مستوى اجتماعي حُسب، فحينما اشترطوا عليه أن يطرد من قالوا عنهم: ﴿وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا﴾ ردَّ عليهم: ﴿وَمَاۤ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْۚ إِنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَلَـٰكِنِّیۤ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمࣰا تَجۡهَلُونَ ﴿٢٩﴾ وَیَـٰقَوۡمِ مَن یَنصُرُنِی مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمۡۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾، ﴿وَلَاۤ أَقُولُ لِلَّذِینَ تَزۡدَرِیۤ أَعۡیُنُكُمۡ لَن یُؤۡتِیَهُمُ ٱللَّهُ خَیۡرًاۖ﴾ وواضح من كل هذا أن هذه النقطة كانت بالغة الأهمية في الصراع بين الفريقين.
- أنه عليه السلام لا يعد قومه بكنوز الأرض، ولا بخوارق العادات، ولا يدّعي لنفسه ما يخلع عنه بشريَّتَه ﴿وَلَاۤ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِی خَزَاۤىِٕنُ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ وَلَاۤ أَقُولُ إِنِّی مَلَكࣱ﴾ وهذا تجريد لدعوة الحق من كل شائبة قد تستَهوِي اللاهِثِين وراء المال والجاه.
- أن هذه الدعوة دعوة دينيّة إيمانيّة، لا سبيل إلى الإكراه فيها ولا إلى التمنّي إن لم تلامس روح الإنسان من داخله في فكره وقلبه عن رضا وطمأنينة وعقيدة راسخة ﴿أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَـٰرِهُونَ﴾، ﴿وَلَا یَنفَعُكُمۡ نُصۡحِیۤ إِنۡ أَرَدتُّ أَنۡ أَنصَحَ لَكُمۡ إِن كَانَ ٱللَّهُ یُرِیدُ أَن یُغۡوِیَكُمۡۚ﴾ بسبب إصراركم أنتم على الغواية وتشبثكم بها وتكبّركم على الحق وأهله.
ثانيًا: أما موقف قومه فيتلخَّص في الآتي:
- التكذيب المنطلق من نفسية الملأ المُتكبِّرة المُتجبِّرة ﴿فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرࣰا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَیۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَـٰذِبِینَ﴾.
- مجابهة العلم والحجة بالعناد والمكابرة ﴿قَالُواْ یَـٰنُوحُ قَدۡ جَـٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَ ٰ⁠لَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَاۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ﴾.
- الإصرار على الكفر حتى ختم الله على قلوبهم وآذن بهلاكهم ﴿وَأُوحِیَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن یُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَىِٕسۡ بِمَا كَانُواْ یَفۡعَلُونَ﴾ وهؤلاء الذين استثناهم القرآن كانوا قليلا في قومهم ﴿وَمَاۤ ءَامَنَ مَعَهُۥۤ إِلَّا قَلِیلࣱ﴾.
ثالثًا: الطوفان:
- أمر الله نوحًا عليه السلام بصناعة السفينة استعدادا لذلك الهول القادم، وأخذا بأسباب النجاة ﴿وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡیُنِنَا وَوَحۡیِنَا﴾.
- إلى هذه المرحلة والمشركون على ما هم عليه من غرور وحماقة وسخرية ﴿وَیَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَیۡهِ مَلَأࣱ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ﴾
- أمر الله نوحا أن يحمل في سفينته كل المؤمنين، وأن يحمل معهم كذلك من كل كائن حي زوجين اثنين لضمان استمرار الحياة بعد الطوفان ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُلࣲّ زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَاۤ ءَامَنَ مَعَهُۥۤ إِلَّا قَلِیلࣱ﴾.
- بدأ الطوفان متدفّقا من الأرض ونازلا من السماء حتى أحاط الموت بالناس إلا تلك السفينة المباركة ﴿۞ وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِیهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَاۤۚ إِنَّ رَبِّی لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ﴿٤١﴾ وَهِیَ تَجۡرِی بِهِمۡ فِی مَوۡجࣲ كَٱلۡجِبَالِ﴾.
- مشهد يعرضه القرآن فيه مزيج من شدّة الموقف وحنان الأبوّة وميزان العدل الحاسم الذي لا مجال فيه للمحاباة ولو كان لأقرب الأقربين ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِی مَعۡزِلࣲ یَـٰبُنَیَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴿٤٢﴾ قَالَ سَـَٔاوِیۤ إِلَىٰ جَبَلࣲ یَعۡصِمُنِی مِنَ ٱلۡمَاۤءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡیَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَیۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِینَ﴾ ويتذكر نوح ابنه مرّة ثانية، وربما لم يعد يعلم عنه شيئا بعد هذا الحوار فالتجأ إلى الله ﴿وَنَادَىٰ نُوحࣱ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ ﴿٤٥﴾ قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ﴾.
- أذن الله بعد ذلك بتوقّف مصادر الطوفان ﴿وَقِیلَ یَـٰۤأَرۡضُ ٱبۡلَعِی مَاۤءَكِ وَیَـٰسَمَاۤءُ أَقۡلِعِی وَغِیضَ ٱلۡمَاۤءُ﴾ ثم رست السفينة بمن فيها على أحد المرتفعات ﴿وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِیِّۖ﴾ ثم هبط نوح ومن معه على الأرض ليعيشوا حياة أخرى وفصلًا جديدًا من فصول التاريخ البشري ﴿قِیلَ یَـٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَـٰمࣲ مِّنَّا وَبَرَكَـٰتٍ عَلَیۡكَ وَعَلَىٰۤ أُمَمࣲ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمࣱ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ یَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾.


﴿مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرࣰا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ﴾ اعتراف منهم بأن نوحا كان منهم ومن أوساطهم وأشرافهم، وهذا مؤكّد فما من نبيّ إلا وهو من أوسط قومه حسبًا ونسبًا وشرفًا، ثم انتقصوا من أتباعه على وفق ميزانهم الدنيوي المادي في التفاضل.
﴿بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ﴾ أي: هؤلاء قد استَعجَلُوا وأخَذُوا بظاهر الأمر فاتَّبَعُوك، وفيه اغتِرارٌ بما عندهم من عقلٍ وخبرةٍ في الحياة تدعُوهم إلى عدم التصديق والتسليم بكل ما يُقال، ولكنه في الحقيقةِ اغتِرارٌ أجوف، كشفه المصير الأظلم الذي أوقعوا أنفسهم فيه.
﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِیۤ أَنفُسِهِمۡ﴾ فليس للنبي ولا لأي داعٍ من بعده أن ينقّب في نفوس الناس ويبحث في نواياهم، فيكفي منهم الاستجابة الظاهرة والخضوع لأمر الله ونهيه، والله بعد ذلك يتولى حسابهم.
﴿إِن كَانَ ٱللَّهُ یُرِیدُ أَن یُغۡوِیَكُمۡۚ﴾ وهي إرادة متصلة بعدل الله وعلمه وحكمته، ومُتَّسِقة مع سنن الله في هذا الخلق، فمَن طلب الهداية هُدِي، ومن طلب الغواية غَوَى، تمامًا مثل بقية الأسباب في التعلُّم والترزُّق والتطبُّب وغيرها.
﴿أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَیۡتُهُۥ فَعَلَیَّ إِجۡرَامِی وَأَنَا۠ بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُجۡرِمُونَ﴾ الخطاب هنا لسيدنا ونبينا محمد في الْتِفاتة سريعة في وسط القصة، كأنه هناك من كان يسمع هذه القصة من مشركي مكة، فيلتفت إليهم رسول الله منبهًا لهم ومخاطبا لهم في أنفسهم؛ أن هذا الذي أتلوه عليكم هو الحق، وإني أتحمل مسؤوليتي أمام ربي كما أنكم تتحملون نتيجة أعمالكم وتكذيبكم، وفي هذه الالتفاتة تنبيه إلى الاعتبار والقياس، والنظر إلى عواقب الأمور ونتائجها.
﴿فَلَا تَبۡتَىِٕسۡ﴾ فلا تحزن.
﴿وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ﴾ إشارة إلى احترام نواميس الكون وقواعد الأخذ بالأسباب حتى في هذه المواضع الاستثنائية.
﴿بِأَعۡیُنِنَا وَوَحۡیِنَا﴾ قَرَن بين القدر والأمر، فالسفينة كانت محفوظة بقدر الله وعلمه ورعايته ونظره، ومصنوعة من قبل نوح عليه السلام بأمر الله ووحيه، ومسؤولية البشر دائما مع القدر الإيمان والتصديق والرجاء والدعاء، ومسؤوليتهم مع الأمر العمل والتنفيذ.
﴿وَلَا تُخَـٰطِبۡنِی فِی ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤاْ﴾ لا تسألني، ولا تشفع عندي في نجاتهم.
﴿وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ﴾ الظاهر أنه تنور الخبز، وخروج الماء منه كان علامة على بداية الطوفان، لكن الذي رأيته في بادية العراق - وهي منطقة لا زالت تحتفظ ببعض المفردات العربية الأصيلة - أنهم يطلقون التنّور على بؤرة العين ومركزها الذي يتدفَّق بالماء، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في الطوفان: ﴿وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُیُونࣰا﴾ [القمر:12].
وقد يكون المعنى صورة ذهنية عامة لبلوغ الأمر ونضجه كما يقال: بلغ السيل الزبى، ولا تعارض بين المعنيين فهذه الصورة لا بد لها من سبب معين ومناسبة محددة أخذت منه، والله أعلم.
﴿مِن كُلࣲّ زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ﴾ أي: احمل من كل جنس اثنين؛ ذكرا وأنثى، والزوج واحد من اثنين متصلين، ونصّ على الزوجين لدلالته على الذكر والأنثى وهو مطلب بحدّ ذاته، ثم نصّ على الاثنين تحرّزا من الزيادة حتى تتمكن السفينة من استيعاب كل الأجناس، وهذا لغير البشر، أما البشر فقد نص على أنه يحمل منهم أهله وأتباعه المؤمنين جميعا، ويذر الكافرين ولو كانوا قرابته.
﴿وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ﴾ استثنى قرابته الذين لا زالوا على الكفر ممن سبق قضاؤه تعالى بهلاكهم.
﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَاۤۚ﴾ بمعنى أنها تجري على اسم الله وتتوقف على اسم الله.
﴿یَـٰبُنَیَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ أراد أن ينقذه من الكفر ومن الهلاك، وفيه أن الداعية لا ييأس من المدعو حتى آخر لحظة من عمره، وأخر فرصة في لقائه.
﴿وَیَـٰسَمَاۤءُ أَقۡلِعِی﴾ كُفِّي عن المطر.
﴿وَغِیضَ ٱلۡمَاۤءُ﴾ نقص ونزل في الأرض.
﴿وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِیِّۖ﴾ رست على جبل، ولم يحدد القرآن مكانه، لكن بعض المفسّرين ذهب إلى أنه في الموصل شمال العراق، وقال آخرون هو الطور، ولا عبرة بتحديد المكان، والله أعلم به.
﴿إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ﴾ تبادر لنوح عليه السلام أن وعد الله له بنجاة أهله يشمل ابنه ولو كان كافرًا.
﴿إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ﴾ تصويب ليس لمعنى الأهل، بل لمن يصدق فيهم الوعد من الأهل، كأنه يقول: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم، وفيه تأكيد عملي عميق لعقيدة الولاء والبراء.
﴿فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ﴾ درس بليغ في تجنّب أسباب الجهالة، ومنها اجتزاء النصوص، فالوعد بنجاة الأهل حق، لكن هنالك نصوص أخرى تقضي باستثناء الكافر ﴿وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ﴾ والنهي عن التشفّع للظالمين ﴿وَلَا تُخَـٰطِبۡنِی فِی ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ﴾ وهذا الاجتزاء يقع فيه اليوم كثير ممن لم يتزوّد بأدوات الاستنباط، فيقرأ الآية أو الحديث فيمضي به دون أن يستوعب الآيات والأحاديث ذات الصلة والتي قد تكون شارحة أو مخصصة أو مقيّدة، ومن أسباب الجهالة أيضا؛ الكيل بمكيالين، فيحكم على المتماثلين بحكمين مختلفين.
فنوحٌ عليه السلام دعا على الكافرين بالهلاك ﴿وَقَالَ نُوحࣱ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ دَیَّارًا﴾ [نوح:26]، وهذا الدعاء شامل لكل كافر ومنهم ابنه، فقوله فيما بعد: ﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ﴾ فيه استثناء بلا مسوِّغ إلا من عاطفة الأب ورقَّة قلبه على ولده.
وهذا درسٌ آخر لكل الباحثين والمجتهدين والقضاة وأولياء الأمور، والتوسّع في استنباط هذه الدروس لا ينقص من مكانة النبيين عليهم السلام فمقامهم محفوظ، وهم قدوة البشر جميعا وسادتهم، ومن تمام محبتهم وتعظيمهم والاقتداء بهم الغوص في استنباط الدروس والعبر من حياتهم ودعوتهم، وهذه غاية القصص القرآني كله ﴿لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ﴾ [يوسف:111].
وفي هذه الآية أيضا تتجلى عظمة الله وكبرياؤه الحق، فنوح عليه السلام مع أنه رسول من أولي العزم لكنه أمام الله عبد، والله يفعل بعباده ما يشاء ويخاطبهم بما يشاء، وقد قال في عيسى عليه السلام أشد مما قاله في نوح: ﴿قُلۡ فَمَن یَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن یُهۡلِكَ ٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَأُمَّهُۥ﴾ [المائدة:17]، وقال في محمد : ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَیۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِیلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡیَمِینِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِینَ ﴿٤٦﴾ فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَـٰجِزِینَ﴾ [الحاقة:44- 47]، أما نحن العبيد فواجبنا التأدب مع هؤلاء الصفوة المنتجَبين دون أن يحول هذا الأدب بيننا وبين فهم كلام ربنا ـ.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَیۡسَ لِی بِهِۦ عِلۡمࣱۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِی وَتَرۡحَمۡنِیۤ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾ موقف بليغ ومؤثّر إلى حد البكاء، فهذا الرسول الكريم لم يتذرّع بتلك القرون الطويلة التي قضاها صابرًا مصابرًا على الدعوة والعبادة، ومقارعته للكفر والظلم، لم يتذكّر كل ذلك ولم يذكره، وإنما بدأ يستغفر ويعتذر ببالغ الاستغفار والاعتذار والتواضع عن كلمة قالها في لحظة ضعف بشرية، إنه درس في العبوديّة الحقّة التي لا تليق إلا بذلك الصنف من العباد عليهم السلام.
﴿وَأُمَمࣱ سَنُمَتِّعُهُمۡ﴾ بعدك يا نوح ﴿ثُمَّ یَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾ تمهيد للحديث عن الأمم التالية، عاد وثمود وفرعون وغيرهم.