﴿مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرࣰا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِینَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ﴾ اعتراف منهم بأن نوحا كان منهم ومن أوساطهم وأشرافهم، وهذا مؤكّد فما من نبيّ إلا وهو من أوسط قومه حسبًا ونسبًا وشرفًا، ثم انتقصوا من أتباعه على وفق ميزانهم الدنيوي المادي في التفاضل.
﴿بَادِیَ ٱلرَّأۡیِ﴾ أي: هؤلاء قد استَعجَلُوا وأخَذُوا بظاهر الأمر فاتَّبَعُوك، وفيه اغتِرارٌ بما عندهم من عقلٍ وخبرةٍ في الحياة تدعُوهم إلى عدم التصديق والتسليم بكل ما يُقال، ولكنه في الحقيقةِ اغتِرارٌ أجوف، كشفه المصير الأظلم الذي أوقعوا أنفسهم فيه.
﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِیۤ أَنفُسِهِمۡ﴾ فليس للنبي ولا لأي داعٍ من بعده أن ينقّب في نفوس الناس ويبحث في نواياهم، فيكفي منهم الاستجابة الظاهرة والخضوع لأمر الله ونهيه، والله بعد ذلك يتولى حسابهم.
﴿إِن كَانَ ٱللَّهُ یُرِیدُ أَن یُغۡوِیَكُمۡۚ﴾ وهي إرادة متصلة بعدل الله وعلمه وحكمته، ومُتَّسِقة مع سنن الله في هذا الخلق، فمَن طلب الهداية هُدِي، ومن طلب الغواية غَوَى، تمامًا مثل بقية الأسباب في التعلُّم والترزُّق والتطبُّب وغيرها.
﴿أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَیۡتُهُۥ فَعَلَیَّ إِجۡرَامِی وَأَنَا۠ بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُجۡرِمُونَ﴾ الخطاب هنا لسيدنا ونبينا محمد
ﷺ في الْتِفاتة سريعة في وسط القصة، كأنه هناك من كان يسمع هذه القصة من مشركي مكة، فيلتفت إليهم رسول الله منبهًا لهم ومخاطبا لهم في أنفسهم؛ أن هذا الذي أتلوه عليكم هو الحق، وإني أتحمل مسؤوليتي أمام ربي كما أنكم تتحملون نتيجة أعمالكم وتكذيبكم، وفي هذه الالتفاتة تنبيه إلى الاعتبار والقياس، والنظر إلى عواقب الأمور ونتائجها.
﴿فَلَا تَبۡتَىِٕسۡ﴾ فلا تحزن.
﴿وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ﴾ إشارة إلى احترام نواميس الكون وقواعد الأخذ بالأسباب حتى في هذه المواضع الاستثنائية.
﴿بِأَعۡیُنِنَا وَوَحۡیِنَا﴾ قَرَن بين القدر والأمر، فالسفينة كانت محفوظة بقدر الله وعلمه ورعايته ونظره، ومصنوعة من قبل
نوح عليه السلام بأمر الله ووحيه، ومسؤولية البشر دائما مع القدر الإيمان والتصديق والرجاء والدعاء، ومسؤوليتهم مع الأمر العمل والتنفيذ.
﴿وَلَا تُخَـٰطِبۡنِی فِی ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤاْ﴾ لا تسألني، ولا تشفع عندي في نجاتهم.
﴿وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ﴾ الظاهر أنه تنور الخبز، وخروج الماء منه كان علامة على بداية الطوفان، لكن الذي رأيته في بادية العراق - وهي منطقة لا زالت تحتفظ ببعض المفردات العربية الأصيلة - أنهم يطلقون التنّور على بؤرة العين ومركزها الذي يتدفَّق بالماء، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في الطوفان:
﴿وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُیُونࣰا﴾ [القمر:12].
وقد يكون المعنى صورة ذهنية عامة لبلوغ الأمر ونضجه كما يقال: بلغ السيل الزبى، ولا تعارض بين المعنيين فهذه الصورة لا بد لها من سبب معين ومناسبة محددة أخذت منه، والله أعلم.
﴿مِن كُلࣲّ زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ﴾ أي: احمل من كل جنس اثنين؛ ذكرا وأنثى، والزوج واحد من اثنين متصلين، ونصّ على الزوجين لدلالته على الذكر والأنثى وهو مطلب بحدّ ذاته، ثم نصّ على الاثنين تحرّزا من الزيادة حتى تتمكن السفينة من استيعاب كل الأجناس، وهذا لغير البشر، أما البشر فقد نص على أنه يحمل منهم أهله وأتباعه المؤمنين جميعا، ويذر الكافرين ولو كانوا قرابته.
﴿وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ﴾ استثنى قرابته الذين لا زالوا على الكفر ممن سبق قضاؤه تعالى بهلاكهم.
﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَاۤۚ﴾ بمعنى أنها تجري على اسم الله وتتوقف على اسم الله.
﴿یَـٰبُنَیَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ أراد أن ينقذه من الكفر ومن الهلاك، وفيه أن الداعية لا ييأس من المدعو حتى آخر لحظة من عمره، وأخر فرصة في لقائه.
﴿وَیَـٰسَمَاۤءُ أَقۡلِعِی﴾ كُفِّي عن المطر.
﴿وَغِیضَ ٱلۡمَاۤءُ﴾ نقص ونزل في الأرض.
﴿وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِیِّۖ﴾ رست على جبل، ولم يحدد القرآن مكانه، لكن بعض المفسّرين ذهب إلى أنه في الموصل شمال العراق، وقال آخرون هو الطور، ولا عبرة بتحديد المكان، والله أعلم به.
﴿إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ﴾ تبادر ل
نوح عليه السلام أن وعد الله له بنجاة أهله يشمل ابنه ولو كان كافرًا.
﴿إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ﴾ تصويب ليس لمعنى الأهل، بل لمن يصدق فيهم الوعد من الأهل، كأنه يقول: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم، وفيه تأكيد عملي عميق لعقيدة الولاء والبراء.
﴿فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ﴾ درس بليغ في تجنّب أسباب الجهالة، ومنها اجتزاء النصوص، فالوعد بنجاة الأهل حق، لكن هنالك نصوص أخرى تقضي باستثناء الكافر
﴿وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَیۡهِ ٱلۡقَوۡلُ﴾ والنهي عن التشفّع للظالمين
﴿وَلَا تُخَـٰطِبۡنِی فِی ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ﴾ وهذا الاجتزاء يقع فيه اليوم كثير ممن لم يتزوّد بأدوات الاستنباط، فيقرأ الآية أو الحديث فيمضي به دون أن يستوعب الآيات والأحاديث ذات الصلة والتي قد تكون شارحة أو مخصصة أو مقيّدة، ومن أسباب الجهالة أيضا؛ الكيل بمكيالين، فيحكم على المتماثلين بحكمين مختلفين.
فنوحٌ
عليه السلام دعا على الكافرين بالهلاك
﴿وَقَالَ نُوحࣱ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ دَیَّارًا﴾ [نوح:26]، وهذا الدعاء شامل لكل كافر ومنهم ابنه، فقوله فيما بعد:
﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ﴾ فيه استثناء بلا مسوِّغ إلا من عاطفة الأب ورقَّة قلبه على ولده.
وهذا درسٌ آخر لكل الباحثين والمجتهدين والقضاة وأولياء الأمور، والتوسّع في استنباط هذه الدروس لا ينقص من مكانة النبيين
عليهم السلام فمقامهم محفوظ، وهم قدوة البشر جميعا وسادتهم، ومن تمام محبتهم وتعظيمهم والاقتداء بهم الغوص في استنباط الدروس والعبر من حياتهم ودعوتهم، وهذه غاية
القصص القرآني كله
﴿لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ﴾ [يوسف:111].
وفي هذه الآية أيضا تتجلى عظمة الله وكبرياؤه الحق، ف
نوح عليه السلام مع أنه رسول من أولي العزم لكنه أمام الله عبد، والله يفعل بعباده ما يشاء ويخاطبهم بما يشاء، وقد قال في عيسى
عليه السلام أشد مما قاله في نوح:
﴿قُلۡ فَمَن یَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن یُهۡلِكَ ٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَأُمَّهُۥ﴾ [المائدة:17]، وقال في محمد
ﷺ:
﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَیۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِیلِ ﴿٤٤﴾ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡیَمِینِ ﴿٤٥﴾ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِینَ ﴿٤٦﴾ فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَـٰجِزِینَ﴾ [الحاقة:44- 47]، أما نحن العبيد فواجبنا التأدب مع هؤلاء الصفوة المنتجَبين دون أن يحول هذا الأدب بيننا وبين فهم كلام ربنا ـ.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَیۡسَ لِی بِهِۦ عِلۡمࣱۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِی وَتَرۡحَمۡنِیۤ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾ موقف بليغ ومؤثّر إلى حد البكاء، فهذا الرسول الكريم لم يتذرّع بتلك القرون الطويلة التي قضاها صابرًا مصابرًا على الدعوة والعبادة، ومقارعته للكفر والظلم، لم يتذكّر كل ذلك ولم يذكره، وإنما بدأ يستغفر ويعتذر ببالغ الاستغفار والاعتذار والتواضع عن كلمة قالها في لحظة ضعف بشرية، إنه درس في العبوديّة الحقّة التي لا تليق إلا بذلك الصنف من العباد
عليهم السلام.
﴿وَأُمَمࣱ سَنُمَتِّعُهُمۡ﴾ بعدك يا
نوح ﴿ثُمَّ یَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾ تمهيد للحديث عن الأمم التالية، عاد وثمود وفرعون وغيرهم.