سورة هود تفسير مجالس النور الآية 3

وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَیۡهِ یُمَتِّعۡكُم مَّتَـٰعًا حَسَنًا إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى وَیُؤۡتِ كُلَّ ذِی فَضۡلࣲ فَضۡلَهُۥ ۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمࣲ كَبِیرٍ ﴿٣﴾

تفسير مجالس النور سورة هود

المجلس التاسع والثمانون: الإيمان والإنسان


من الآية (1- 24)


لا يختلف موضوع هذه السورة عن سابقتها، وهذا شأن القرآن المكي بشكلٍ عام، إلا أن ما بين هاتَين السورتَين أقوى حتى كأن الثانية امتدادٌ للأولى وتكميلٌ لها، وقد لا يكون الفارق إلا التوسُّع في ذِكر الشواهد وقصص النبيين السابقين، وتسليط الضوء على بعض الجوانب العمليّة التي تعزز الخبرة الميدانيّة للصفِّ المؤمن وهو يواجه في مكة ذات التحدّي الذي واجهه كلّ الأنبياء السابقين عليهم وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والتسليم.
في أوائل السورة يعرض القرآن لعالم الغيب وصلته بعالم الشهادة، وتردُّد البشريّة واضطرابها في فهم هذه الصلة وكيفيّة استيعابها والتعامل معها، وهذا هو أساس التباين في مواقف الناس وولاءاتهم وصراعاتهم، حتى يكون الأب في خندقٍ وابنه في خندقٍ آخر، وحتى تنقسم الأسرة الواحدة، والقبيلة الواحدة، ومن هنا يعرض القرآن توجيهاته للبشريّة عامة بغية هدايتهم وتوحيد وجهتهم، وللمؤمنين خاصة بغية تثبيتهم وتمكينهم وتعزيز موقفهم:
أولًا: إن هذا الخلْق كلَّه قد صدر عن إرادة واحدة، وهي إرادة الله ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾ وأن هذا الخلق كلّه لا زال قائمًا بإرادة الله وحكمته ورحمته ﴿۞ وَمَا مِن دَاۤبـَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَیَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلࣱّ فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ﴾.
ثانيًا: إن الإنسان له وظيفته المتميّزة في هذا الكون، وهي محور اختباره وغاية وجوده ﴿لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۗ﴾ وميزان العمل إنما هو الخضوع لأمر الله ووحيه ﴿كِتَـٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ خَبِیرٍ ﴿١﴾ أَلَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ﴾، ﴿أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرࣲ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَیَـٰتࣲ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿١٣﴾ فَإِلَّمۡ یَسۡتَجِیبُواْ لَكُمۡ فَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّمَاۤ أُنزِلَ بِعِلۡمِ ٱللَّهِ وَأَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾.
ثالثًا: إن الناس قد انقسموا على فريقين؛ فريقٌ تائهٌ حائر لا يدري سرّ وجوده ولا مبتدأه ولا منتهاه، وهم الغافلون السادرون في هذا المتاع بلا فكرٍ ولا تأملٍ ﴿مَا كَانُواْ یَسۡتَطِیعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُواْ یُبۡصِرُونَ ﴿٢٠﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَفۡتَرُونَ﴾، ﴿أَلَاۤ إِنَّهُمۡ یَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِیَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِینَ یَسۡتَغۡشُونَ ثِیَابَهُمۡ یَعۡلَمُ مَا یُسِرُّونَ وَمَا یُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُو﴾، وأما الفريق الثاني: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّهِۦ وَیَتۡلُوهُ شَاهِدࣱ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِمَامࣰا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ﴾.
والفارِقُ بين الفريقَين: ﴿۞ مَثَلُ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِیرِ وَٱلسَّمِیعِۚ هَلۡ یَسۡتَوِیَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.
رابعًا: إن الإنسان من طبعه التغيّر والتقلّب بحسب ما يُواجِهه وما يُحيط به، فهو يتأثَّر باللحظة التي يعيشها حتى أنه يغفل أو يتغافل عما كان عليه قبل ﴿وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحۡمَةࣰ ثُمَّ نَزَعۡنَـٰهَا مِنۡهُ إِنَّهُۥ لَیَـُٔوسࣱ كَفُورࣱ ﴿٩﴾ وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَـٰهُ نَعۡمَاۤءَ بَعۡدَ ضَرَّاۤءَ مَسَّتۡهُ لَیَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّیِّـَٔاتُ عَنِّیۤۚ إِنَّهُۥ لَفَرِحࣱ فَخُورٌ﴾، ثم استثنَى فئةً مؤمنةً واعيةً ثابتةً ﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرࣱ كَبِیرࣱ﴾.
خامسًا: إن الجانب الإيجابي في هذه الطبيعة البشريّة هو القدرة على التصحيح والرجوع عن الخطأ، ومن ثَمّ فتَحَ الله باب التوبة وحضَّ الناس عليه ترغيبًا وترهيبًا ﴿وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَیۡهِ یُمَتِّعۡكُم مَّتَـٰعًا حَسَنًا إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى وَیُؤۡتِ كُلَّ ذِی فَضۡلࣲ فَضۡلَهُۥ ۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمࣲ كَبِیرٍ﴾.
سادسًا: التذكير المستمر بيوم الجزاء، وأن هذه الحياة الدنيا كلّها ما هي إلا مقدمة لذلك اليوم، وإذا كان الناس هنا يتمايزون بأنسابهم وأموالهم، فهناك التمايز إنما يكون على أساس العمل والسلوك الذي قدمه الإنسان على هذه الأرض ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَأَخۡبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ﴾، وأما الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله فأولئك ﴿ٱلَّذِینَ لَیۡسَ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِیهَا وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾، ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَفۡتَرُونَ ﴿٢١﴾ لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ﴾.
سابعًا: توجيه الخطاب إلى المؤمنين من خلال النبي الكريم أن اثبتوا على الحقّ وتمسّكوا به مهما كان حجم الباطل والدائرين في فلكه ﴿وَمَن یَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِی مِرۡیَةࣲ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾، ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیۡكَ وَضَاۤىِٕقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ أَن یَقُولُواْ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ كَنزٌ أَوۡ جَاۤءَ مَعَهُۥ مَلَكٌۚ إِنَّمَاۤ أَنتَ نَذِیرࣱۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ وَكِیلٌ﴾.


﴿أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ﴾ دلالةٌ أن التفصيل متأخرٌ عن الإحكام، وفيه معنى ردّ الفروع إلى أصولها، وهو أساس فهم القرآن والمنهجية الصحيحة لتدبُّره واستنباط الأحكام منه.
﴿وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَیۡهِ﴾ ترتيبٌ مقصودٌ؛ إذ المُذنِب عليه أن يستشعر الحياء أولًا فيطلب الستر وهو الاستغفار، ثم يطلب العفو بندمه وعزمه على التصحيح وهجر الذنب وأسبابه ومقدماته.
﴿وَیُؤۡتِ كُلَّ ذِی فَضۡلࣲ فَضۡلَهُۥ ۖ﴾ الفضل الأول: عمل الخير؛ وسماه فضلًا لأن الأصل أن الإنسان يتقدَّم بالخير الفاضل عن وقته وحاجته.
والفضل الثاني: الثواب الذي هو كلّه فضل من الله بمنّه وكرمه.
﴿وَإِن تَوَلَّوۡاْ﴾ أصله: تتولَّوا، وحُذِفَت الأولى تخفيفًا.
﴿فَإِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمࣲ كَبِیرٍ﴾ هذا هو خُلُق النبيين حتى مع خصومهم؛ أنهم يخافون عليهم من سَخَطِ الله وعذابِهِ.
﴿أَلَاۤ إِنَّهُمۡ یَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِیَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ﴾ تفريع عن التولّي، فهم يتولون عن الحقّ، وهم عالمون به، لكنهم يراوغون ويخادعون، فشبّه حالهم هذه بمن ينطوي على نفسه كأنه يخفي شيئًا، لكنه يجهل أن الله عليم به مطّلع على كامل أحواله ﴿أَلَا حِینَ یَسۡتَغۡشُونَ ثِیَابَهُمۡ یَعۡلَمُ مَا یُسِرُّونَ وَمَا یُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾.
وما ورد من تفسيرات مختلفة عن السلف لمعنى الثني والاستخفاء كلّها داخلة في مظلة هذه الحقيقة الكبيرة، فهي تنزيل وتطبيق على حالات الإنسان المختلفة التي يحاول فيها التخفِّي حياءً أو مُراوغةً.
﴿۞ وَمَا مِن دَاۤبـَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ كلّ ما يدبّ في الأرض ويتحرك عليها.
﴿وَیَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ﴾ كلاهما بمعنى المكان الذي يوجد فيه الكائن الحي على ما هو عليه، لكن المستودع فيه إشارة إلى معنى الوديعة، فهذا الإنسان بعد انتهاء أجله ومفارقته لمستقره على هذه الأرض سيكون هو وما قدّم وديعة عند الله، فالمستقر في الأرض، والمستودع في القبر وحياة البرزخ، والله أعلم.
﴿وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَاۤءِ﴾ خبر غيبيٌّ يلزم التصديق به من غير كيفٍ وتفصيلٍ، وفيه إشارة إلى أن الماء أصل الحياة، كما قال في آية أخرى: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ﴾ [الأنبياء:30]، والله أعلم.
﴿إِلَىٰۤ أُمَّةࣲ مَّعۡدُودَةࣲ﴾ إلى أجلٍ محدودٍ، لكن هذا الأجل متصلٌ بحركة الأمم والشعوب، فلا تنقرض أمة إلا وتعقبها أمة.
﴿مَا یَحۡبِسُهُۥۤۗ﴾ ما يؤخره؟ كأنهم يستعجلون عذابهم، ويتحدون نبيَّهم .
﴿إِنَّهُۥ لَیَـُٔوسࣱ﴾ شديد اليأس.
﴿لَفَرِحࣱ فَخُورٌ﴾ فرح بما نال من المتاع، وفخور ينسب هذا الخير إلى قوّته وعقله وحسن تدبيره، وليس إلى الله الذي خلقه ورزقه.
﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیۡكَ وَضَاۤىِٕقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ﴾ ليس للنبيِّ أن يترك بعض ما يُوحَى إليه أبدًا، وإنما هو خطاب للأمة في شخص نبيِّها، كما قال: ﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر:65]، وفيه إشارةٌ لحجم المِحَن والضغوط التي يُواجِهُها الأنبياء عليهم السلام من أقوامهم حتى احتاجوا إلى هذا التأكيد والتكرار المستمر بالثبات والصبر، والتمسُّك بما أُوحِيَ إليهم.
﴿فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرࣲ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَیَـٰتࣲ﴾ تنوُّع في التحدِّي؛ ليثبت عجزهم على كلّ وجه، وقوله: ﴿مُفۡتَرَیَـٰتࣲ﴾ فيه إغراء لهم، يعني: إذا كان محمدٌ قد افترى القرآن كلّه بزعمكم، فبإمكانكم أن تفتروا أيضًا ولو بمقدار عشر سُور منه.
﴿مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ﴾ قانونٌ إلهيٌّ عظيمٌ، فمن يأخذ بأسباب الحياة يصل إلى ما يريد، مؤمنًا كان أو كافرًا، وهذا واقع الحياة، وحركة الناس في بناء أمجادهم وثرواتهم وحضاراتهم، وهو من العدل الإلهي المتسق مع سنّة الابتلاء والاختبار.
﴿وَحَبِطَ﴾ بطل في الآخرة ﴿مَا صَنَعُواْ فِیهَا﴾ لأنهم أرادوه للدنيا دون الآخرة فكان كذلك.
﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّهِۦ﴾ تفريع الضد عن الضد لغرض المقارنة، فهؤلاء الذين هم على بينة فريق، يقابلهم فريق المكذّبين المعاندين ﴿أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ﴾ وإطلاق البيّنة دلالة تتسع لكلّ من كان على بصيرةٍ وباحثٍ عن الحقّ بفطرةٍ سليمةٍ، أو بمعلومةٍ صحيحةٍ، أو بتفكّرٍ صادقٍ.
ولا شكَّ أن أكثر من يَصدُق عليه هذا الوصف هو سيدنا محمد الذي برّأه الله من الشرك، ورغّبه في عبادته قبل بعثته، فالبينة هنا هي هذه البصيرة، ويبعد أن يكون المقصود بها الوحي لما سيأتي.
﴿وَیَتۡلُوهُ شَاهِدࣱ مِّنۡهُ﴾ الشاهدُ هنا القرآن، الذي جاء يشهد لأهل التوحيد والمصدِّقين بالرسل، ويُنكِر على المشركين وعبَدَة الأصنام، ولا شكَّ أن نزول القرآن جاء تالِيًا لهذه البصيرة والتوجُّه الفِطريِّ أو الإبراهيميِّ الذي كان يُصارِعُ الشركَ والوثنيةَ في كلّ الجزيرة العربية وغيرها.
﴿وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ﴾ أي: التوراة، فهي كتابٌ متقدّمٌ من حيث النزول على القرآن، وهو كذلك يشهد لهذه الفطرة ولهذه البصيرة كما يشهد القرآن.
﴿وَمَن یَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ﴾ كلّ مجموعةٍ بشريّةٍ تتناصر فيما بينها فهي حزب، مثل: قريش، واليهود، والمنافقين، وهكذا.
﴿فَلَا تَكُ فِی مِرۡیَةࣲ مِّنۡهُۚ﴾ لا تكن في شكٍّ منه، والمخاطب كلّ مكلّفٍ عاقلٍ، وهذا نظير قوله: ﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر:65].
﴿وَیَقُولُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ﴾ جمع شاهد، وهو كلّ من يُؤذن له بالشهادة في ذلك من نبي وملك وغيرهما.
﴿وَیَبۡغُونَهَا عِوَجࣰا﴾ لكي تناسب أهواءهم وشهواتهم.
﴿مَا كَانُواْ یَسۡتَطِیعُونَ﴾ لا يستطيعون سماع الحقّ لفرط تكبّرهم وغرورهم.
﴿وَمَا كَانُواْ یُبۡصِرُونَ﴾ البصر الذي يقودهم إلى الهداية.
﴿لَا جَرَمَ﴾ لا محالة، وهي تُفيدُ توكيد ما بعدها، كأنه قال: حقًّا إنهم في الآخرة هم الخاسِرُون.
﴿وَأَخۡبَتُوۤاْ﴾ خضعوا.
﴿۞ مَثَلُ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ﴾ الذين عطّلوا منافذ المعرفة ﴿وَٱلۡبَصِیرِ وَٱلسَّمِیعِۚ﴾ الذين جاهدوا واجتهدوا في سبيل الوصول إلى الحقّ والحقيقة، وهذا هو الفارق الأساس بين الفريقين.