سورة يوسف سورة مكية، إلا أن موضوعاتها أقرب إلى المدنية، فهي لا تتحدّث عن العقيدة ومسائل الخلاف والصراع مع المشركين بقدر ما تتحدث عن مشاكل المجتمع المدني، ومسائل الدولة والسياسة والاقتصاد والحكم.
الموضوع الأول في هذه السورة هو الحسد، وقد عرضه القرآن من خلال ما تعرَّضَ له يوسف
عليه السلام على يد إخوته، حتى حاولوا قتله؛ وبذلك يكون الحسد طريقًا لمعاصٍ وجرائم أخرى قد تكون أخطر من الحسد نفسه؛ فقد جرَّ الحسدُ هؤلاء إلى الكذب، وعقوق الأب، إضافةً إلى محاولة القتل.
وفيما يلي عرضٌ لهذه الفتنة كما جسَّدها القرآن في هذا النموذج:
أولًا: النعمة والموهبة والتميُّز من دواعي الحسد ومظانِّه
﴿إِذۡ قَالَ یُوسُفُ لِأَبِیهِ یَـٰۤأَبَتِ إِنِّی رَأَیۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَیۡتُهُمۡ لِی سَـٰجِدِینَ ﴿٤﴾ قَالَ یَـٰبُنَیَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡیَاكَ عَلَىٰۤ إِخۡوَتِكَ فَیَكِیدُواْ لَكَ كَیۡدًاۖ﴾، ويعقوب بما آتاه الله من حكمة وتجربة طويلة في الحياة أدرك هذه الحقيقة، وقدَّم نصيحَتَه لابنه الحبيب يوسف بعد ما أدرك أنه يملك شيئًا سيكون مدعاةً لإثارة الحسد في قلوب إخوته.
ثانيًا: مع هذا الاحتياط إلا أن نَزعَةَ الحسد قد تحرَّكَت لما رأوه من حظوةٍ ليوسف وأخيه الأصغر عند أبيهم، وهي حظوةُ العاطفة، لا حظوة الانحياز والتمييز؛ لأن يوسف وأخاه كانا صغيرَيْن، فهما أَولَى بالحُنُوِّ والرعاية، لكنَّ هذا لم يرُق للإخوة الكبار
﴿إِذۡ قَالُواْ لَیُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰۤ أَبِینَا مِنَّا وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ﴾، والضلال الذي يرونه أن أباهم قد جانَبَ الصواب فهم أَولَى بهذه الرعاية؛ لأنهم أقدر على النفع، ودفع الضرّ بحكم كونهم عصبة كبارًا.
ثالثًا: سرعان ما تحولت هذه النجوى إلى عزيمةٍ أكيدةٍ لارتكاب الجريمة بأبشع صورها
﴿ٱقۡتُلُواْ یُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضࣰا یَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِیكُمۡ﴾،
﴿قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ لَا تَقۡتُلُواْ یُوسُفَ وَأَلۡقُوهُ فِی غَیَـٰبَتِ ٱلۡجُبِّ یَلۡتَقِطۡهُ بَعۡضُ ٱلسَّیَّارَةِ إِن كُنتُمۡ فَـٰعِلِینَ﴾ مداولات وآراء مختلفة بين قتله، أو إبعاده إلى أرضٍ أخرى، أو إلقائه في البئر!
رابعًا: وكما صنعوا لأنفسهم مسوّغًا للفعل
﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ﴾ صنعوا أملًا لهم يتخلّصون به من وطأة الضمير ومخافة الذنب والعقاب الإلهي
﴿وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمࣰا صَـٰلِحِینَ﴾ إنه التديّن المغشوش، الذي يسهم في صناعة الجريمة وتهوين فعلها، كما مرّ معنا قبلُ الفهم الخاطئ لقوله تعالى:
﴿إِنَّ ٱلۡحَسَنَـٰتِ یُذۡهِبۡنَ ٱلسَّیِّـَٔاتِۚ﴾ [هود: 114].
خامسًا: بدأت الجريمة بمخادعة الأب
﴿قَالُواْ یَـٰۤأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأۡمَ۬نَّا عَلَىٰ یُوسُفَ وَإِنَّا لَهُۥ لَنَـٰصِحُونَ ﴿١١﴾ أَرۡسِلۡهُ مَعَنَا غَدࣰا یَرۡتَعۡ وَیَلۡعَبۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ ﴿١٢﴾ قَالَ إِنِّی لَیَحۡزُنُنِیۤ أَن تَذۡهَبُواْ بِهِۦ وَأَخَافُ أَن یَأۡكُلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَأَنتُمۡ عَنۡهُ غَـٰفِلُونَ ﴿١٣﴾ قَالُواْ لَىِٕنۡ أَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُ وَنَحۡنُ عُصۡبَةٌ إِنَّـاۤ إِذࣰا لَّخَـٰسِرُونَ﴾.
وهذا الحوار ينمّ عن مخاوف وشكوكٍ كانت تراود الأب، لكنه القدر الذي لا مفرّ منه، فقد أخذوه معهم واتفقوا على تركه في البئر الذي لا يمكنه الخروج منه
﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجۡمَعُوۤاْ أَن یَجۡعَلُوهُ فِی غَیَـٰبَتِ ٱلۡجُبِّ ۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡهِ لَتُـنَـبِّـئَـنَّهُم بِأَمۡرِهِمۡ هَـٰذَا وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾ وكان هذا الوحي هو سلوة يوسف في هذا الجب.
سادسًا: بعد تنفيذ الجريمة عادوا إلى أبيهم بكذبٍ مركّبٍ وخديعةٍ لم تنطل عليه
﴿وَجَاۤءُوۤ أَبَاهُمۡ عِشَاۤءࣰ یَبۡكُونَ ﴿١٦﴾ قَالُواْ یَـٰۤأَبَانَاۤ إِنَّا ذَهَبۡنَا نَسۡتَبِقُ وَتَرَكۡنَا یُوسُفَ عِندَ مَتَـٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُۖ وَمَاۤ أَنتَ بِمُؤۡمِنࣲ لَّنَا وَلَوۡ كُنَّا صَـٰدِقِینَ ﴿١٧﴾ وَجَاۤءُو عَلَىٰ قَمِیصِهِۦ بِدَمࣲ كَذِبࣲۚ﴾.
فردَّ يعقوب هذا الكذب ولم يُصدِّقهم به
﴿قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرࣰاۖ فَصَبۡرࣱ جَمِیلࣱۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾.