سورة يوسف تفسير مجالس النور الآية 20

وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسࣲ دَرَ ٰ⁠هِمَ مَعۡدُودَةࣲ وَكَانُواْ فِیهِ مِنَ ٱلزَّ ٰ⁠هِدِینَ ﴿٢٠﴾

تفسير مجالس النور سورة يوسف

المجلس السابع والتسعون: فتنة النساء


من الآية (19- 34)


من الفتن التي تشب في مرحلة عمريّة معينة فتنة الرجال على النساء وفتنة النساء على الرجال، وقد اختار الله ـ نموذجًا ومثالًا يُحتذى، وقدوةً صالحةً في قصة يوسف عليه السلام لكلّ الشباب الذين يتعرّضون لهذه الفتنة ولهذا الاختبار على مرِّ العصور والأجيال، وقد ذكر العلماء أن شرائط الفتنة قد اجتمعت في هذا النموذج، بحيث إنها باتت سقفًا لا تدانيه فتنة أخرى، ومن هذه الشرائط:
أولًا: أن يوسف عليه السلام قد حباه الله بأركان الحُسن مجتمعة؛ فهو جميلٌ في صورته حتى سلب عقول النسوة ﴿فَلَمَّا رَأَیۡنَهُۥۤ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَیۡدِیَهُنَّ وَقُلۡنَ حَـٰشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا مَلَكࣱ كَرِیمࣱ﴾، وجميلٌ في خُلقه وأدبه وإحسانه حتى بهَرَ المسجونين في السجن فقالوا له: ﴿إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾، وهو جميلٌ في ذكائه وقوة شخصيّته، وحسن تدبيره ﴿قَالَ ٱجۡعَلۡنِی عَلَىٰ خَزَاۤىِٕنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ﴾ حتى قال فيه الملك: ﴿ٱئۡتُونِی بِهِۦۤ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِیۖ﴾، ومن كانت فيه واحدةٌ من هذه كان أهلًا لأَن يُحَبّ، فكيف بمَن اجتمَعْن فيه؟
ثانيًا: أنه عليه السلام كان في أَوج شبابه وقوته ﴿قَالَ یَـٰبُشۡرَىٰ هَـٰذَا غُلَـٰمࣱۚ﴾ وقد ترعرع هذا الغلام حتى بلغ مبلغ الرجال ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُۥۤ﴾ في قصرٍ من قصور الأمراء، ومثله في هذا السنّ تدفع به غريزته كلّ مدفع.
ثالثًا: أنه عاش هذه الفتنة غريبًا، لا يعرف في مصر قريبًا ولا صديقًا، والغربة تكسِرُ كثيرًا من الحواجز، وتجعَلُ الغريب أكثر جُرأةً على فعل ما يمتنع عن فعله في بلده وبين أهله وعشيرته.
رابعًا: أن لقاءه بامرأة العزيز لم يكن لقاءًا عابرًا في سوقٍ أو طريقٍ، بل كان يعيش معها في القصر من سنّ الصبا حتى بلغ عندهم ما بلغ، وهذه لوحدها تكفي لتصوّر شدة الفتنة التي يُواجهها هذا النبيّ الكريم.
خامسًا: أن امرأة العزيز هي من بادَرَت وطلبت منه بُغيتها ﴿وَرَ ٰ⁠وَدَتۡهُ ٱلَّتِی هُوَ فِی بَیۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَ ٰ⁠بَ وَقَالَتۡ هَیۡتَ لَكَۚ﴾ فهي التي كسَرَت حاجز الحياء وتجرّأت على المبادرة، وزادَت بأن غلّقت الأبواب، وأخلَت المشهدَ من كلّ غريبٍ أو رقيبٍ.
سادسًا: أنها كانت متنفِّذة في القصر، حتى إنها أصرََّت على رغبتها بعد انكِشاف أمرها أمام زوجها، وشيُوع الخبر بين أهل المدينة ونسائِهم، فواجهتهنَّ بقولها: ﴿فَذَ ٰ⁠لِكُنَّ ٱلَّذِی لُمۡتُنَّنِی فِیهِۖ وَلَقَدۡ رَ ٰ⁠وَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَىِٕن لَّمۡ یَفۡعَلۡ مَاۤ ءَامُرُهُۥ لَیُسۡجَنَنَّ وَلَیَكُونࣰا مِّنَ ٱلصَّـٰغِرِینَ﴾.
سابعًا: أنّ زوجها لم يكن بالصفة التي يُخشى منه، فإنَّه اكتَفَى بقوله: ﴿یُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَـٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِی لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔینَ﴾ مع أنه رأى القميص الذي قدّ من دبرٍ، وسمِعَ الشاهدَ يشهَدُ ليوسف في قوله: ﴿هِیَ رَ ٰ⁠وَدَتۡنِی عَن نَّفۡسِیۚ﴾.
ثامنًا: أن يوسف أدرَك أنه إن لم يستجِب لها فإنه سيُحرَم من نعيم القصر، وسيُرمَى في السجن، أو يكون عُرضةً لانتقامها بأي وسيلةٍ أخرى، وهو في بلدٍ غريبٍ ليس معه جاه، ولا مال، ولا أهل، ولا ملجأ، ومع كلّ هذا كان خيارُه واضِحًا مُجلجِلًا: ﴿قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَیَّ مِمَّا یَدۡعُونَنِیۤ إِلَیۡهِۖ﴾ وبهذا يكون قد ضرَبَ المثَلَ الأعلى الذي لا يُدانِيه مثَل في قصة نجاحٍ لا تتكرَّر أبدًا بمثل هذه الشروط في أي جِيلٍ من الأجيال.


﴿وَجَاۤءَتۡ سَیَّارَةࣱ﴾ جماعة يسيرون في الطريق الذي كانت فيه البئر.
﴿وَارِدَهُمۡ﴾ الرجل المكلّف بالسقاية وجلب الماء لهم.
﴿فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥ ۖ﴾ في البئر ليملأه بالماء.
﴿قَالَ یَـٰبُشۡرَىٰ هَـٰذَا غُلَـٰمࣱۚ﴾ الذي يظهر أن يوسف عليه السلام لما تدلَّى عليه الدلو تمسَّكَ به، فخرج من البئر، واستبشَرَ الوارد به؛ لأنه سيَبِيعَه كما جَرَت العادة في ذلك الزمان.
﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَـٰعَةࣰۚ﴾ الضمير يعود إلى السيَّارة، هذا هو ظاهر السياق ولا مُسوِّغ للعدول عنه، فقد اتفقوا على بيعه رقيقًا، وأنهم يكتمون أمره وكيف أنهم وجَدُوه في البئر؛ خوفًا من أن يكون ذلك دليلًا لأهله عليه فيستردُّوه منهم.
﴿وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسࣲ﴾ باعوه بثمنٍ قليلٍ، وأصل البخس: النقص.
﴿وَكَانُواْ فِیهِ مِنَ ٱلزَّ ٰ⁠هِدِینَ﴾ أشكل على بعض المفسرين الجمع بين الاستبشار به والزهادة فيه، فذهبوا إلى أن الضمير هنا يعود إلى إخوة يوسف، وهو خروج من السياق، مع ما فيه من تكلّف وإدخال قصة في قصّة، والذي يطمئن إليه القلب أن الزهادة به إنما كانت لجهلهم به وبنسبه وبما أعدّه الله له، فباعوه كما يبيعون أيّ غلامٍ آخر، ولا ريب أن هذا بخسٌ ليس مثله بخس، وزهادةٌ جاهلة ليس مثلها زهادة، والله أعلم.
﴿وَقَالَ ٱلَّذِی ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦۤ أَكۡرِمِی مَثۡوَىٰهُ﴾ حيث وصل السيَّارة بيوسف إلى سوق مصر، فاشتراه منهم عزيز مصر وهو بمثابة الوزير، فأوصَى امرأتَه أن تُكرِمَه لما رأى فيه من النَّباهة وملامح الخير، والمثوى: محل الإقامة.
﴿أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدࣰاۚ﴾ نتبنَّاه؛ لأن العزيز كان لا ولد له.
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥۤ﴾ أوج قوَّته وشبابه.
﴿وَرَ ٰ⁠وَدَتۡهُ ٱلَّتِی هُوَ فِی بَیۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَ ٰ⁠بَ وَقَالَتۡ هَیۡتَ لَكَۚ﴾ لا تحتمل هذه المراودة وبهذا السياق سوى ما تريده المرأة من الرجل، وهو متوقع منها فهي ليست نبيًّا ولا ملكًا، وقد عبّر القرآن عن هذا بقوله الآتي: ﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلۡفَحۡشَاۤءَۚ﴾ وقولها: ﴿هَیۡتَ لَكَۚ﴾ تحتمل معاني عدَّة ومُؤدَّاها واحد؛ أنها تدعوه لنفسها بعد أن تهيَّأَت له، وأنه لا يسعه الرد، وليس أمامه مهرب.
﴿قَالَ مَعَاذَ ٱلـلَّــهِۖ﴾ يطلب الحماية من الله، فذِكْر الله واستحضارُ معيَّته دائمًا هو مفتاح النجاة من كلّ فتنة.
﴿إِنَّهُۥ رَبِّیۤ أَحۡسَنَ مَثۡوَایَۖ﴾ يقصد بالربِّ هنا: العزيز الذي أكرمه، كأنه يقول لها: ليس من الوفاء أن أُجازِي الرجلَ بهذا الفعل الخَؤُون، وبهذا يكون يوسف عليه السلام قد استحضر مرَّةً واحدة حقَّ الخالق وحقَّ الخَلق، وهذا من تمام التديُّن، وحُسن الخُلق.
﴿إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ المُتعَدُّون على حقّ الله وحقّ الناس.
﴿وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ﴾ مفسّر بالمراودة السابقة، أي: قصدت وعزمت.
﴿وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَاۤ أَن رَّءَا بُرۡهَـٰنَ رَبِّهِۦۚ﴾ فيه خلافٌ شديد بين المفسّرين، والذي يطمئن إليه القلب أنه مفسّر بقوله الآتي: ﴿وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّی كَیۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَیۡهِنَّ﴾ فالنبيُّ بَشَرٌ فيه من الغرائز ما في سائر البشر، غير أنه معصومٌ ومُنزَّهٌ عن الوقوع في الإثم بالوحي وبحفظ الله له؛ لأنه القدوة والمثل الأعلى، والمبلِّغ عن الله بقوله وفعله، فالهمُّ منه ليس كالهمِّ منها بالضرورة؛ لمكان العصمة والوحي وهما المقصود بالبرهان، والله أعلم.
﴿وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ﴾ تسابَقَا نحو الباب؛ هو يريد الخروج، وهي تريد منعه من الخروج.
﴿وَقَدَّتۡ قَمِیصَهُۥ مِن دُبُرࣲ﴾ شقَّت قميصه من الخلف؛ لأنه كان هاربًا منها، وهذه قرينةٌ أخرى على جدِّيَّتها فيما عزَمَت عليه من السوء.
﴿وَأَلۡفَیَا سَیِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِۚ﴾ وجداه وهما على هذه الحال من المسابقة.
﴿مَا جَزَاۤءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوۤءًا﴾ لاذت بالحيلة والمكر لتدفع عن نفسها ما وقعت فيه، ورَمَت بالتهمة على يوسف، وعبارتها تَشِي بحقيقة ما كانت تريده منه.
﴿قَالَ هِیَ رَ ٰ⁠وَدَتۡنِی عَن نَّفۡسِیۚ﴾ هنا يعلّمنا يوسف عليه السلام أن صاحب الحقّ لا بُدّ له أن يجهر بحقِّهِ، وأن التهمة مهما كانت باطلة أو باهتة فلا بُدّ من كشفها والتصدي لها.
﴿وَشَهِدَ شَاهِدࣱ مِّنۡ أَهۡلِهَاۤ﴾ قريبٌ للمرأة كان بصحبة العزيز حين ألفياه عند الباب، وكان ينظر إليهما وينظر إلى القميص الممزّق، وقد ألهمه الله القول الفصل.
﴿إِن كَانَ قَمِیصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلࣲ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ لأنه يكون هو الذي يطلبها وهي تدفعه.
﴿وَإِن كَانَ قَمِیصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرࣲ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ﴾ لأنه يكون هاربًا عنها وهي التي تطلبه، وقول الشاهد هذا مع ما فيه من حقٍّ وعدلٍ، فيه حكمة؛ إذ قدّم الاحتمال الأنسب لها، وهذا شبيهٌ من هذه الناحية فقط بما فعله يوسف مع إخوته فيما بعد ﴿فَبَدَأَ بِأَوۡعِیَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَاۤءِ أَخِیهِ﴾.
﴿إِنَّ كَیۡدَكُنَّ عَظِیمࣱ﴾ يُخاطِبُ امرأتَه، مُستحضِرًا ما يعرفه عن النساء من اللجوء إلى الحيلة عندما يخرج الأمر من أيديهنَّ.
﴿یُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَـٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِی لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔینَ﴾ يوجه العزيز كلامه ليوسف أن ينسى الأمر ولا يتحدث به لأحد، ثم يؤنّب امرأته على سوء صنيعها، وهو اعترافٌ ببراءة يوسف عليه السلام.
﴿۞ وَقَالَ نِسۡوَةࣱ فِی ٱلۡمَدِینَةِ﴾ من المقرّبين للقصر، ولا يبعد أنها هي من أفشت سرّها لهنّ؛ لأنه في مثل هذه الحالات يحتاج المرء إلى من يشكو إليه همه، والمرأة في هذا أشدّ احتياجا.
﴿فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ﴾ سمَّت قولهنَّ مكرًا؛ لأنها ربما أسرَّتهن بما عندها، فلما تحدَّثن به على سبيل الإنكار والمَلامَة صار بمثابةِ المكر بها، ولا يبعُد أنهنَّ أرَدن أن يَرَينَ هذا الفتى، فألجَأْنَها إلى ذلك بهذا المكر.
﴿فَلَمَّا رَأَیۡنَهُۥۤ أَكۡبَرۡنَهُۥ﴾ من الإكبار وهو التعظيم المتضمن للإعجاب والاندهاش إلى حدّ أن جرحن أكفهنّ دون شعور؛ حيث كنّ يقطعن الفاكهة بالسكين كعادة أهل القصور في ذلك الزمان.
﴿وَقُلۡنَ حَـٰشَ لِلَّهِ﴾ كلمة تفيد التنزيه.
﴿مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا مَلَكࣱ كَرِیمࣱ﴾ ليس في البشر مثله، وشبهوه بالملَك لما استقرّ في أذهان الناس أن الملائكة أحسن الخلق صورة، وهو لجوءٌ إلى التشبيه الغيبي، كأنهن لا يجدن في الحسّ صورة تصح له مثالًا.
﴿قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَیَّ مِمَّا یَدۡعُونَنِیۤ إِلَیۡهِۖ﴾ إشارة إلى أن الفتنة لم تعد فتنة امرأة العزيز فحسب، بل تعدتها إلى غيرها، ثم أكّد هذا بدعائه ﴿وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّی كَیۡدَهُنَّ﴾.
﴿أَصۡبُ إِلَیۡهِنَّ﴾ أمِلْ إليهن، وفيه إظهار التذلُّل وحسن التعبد لله تعالى.