من الفتن التي تشب في مرحلة عمريّة معينة فتنة الرجال على النساء وفتنة النساء على الرجال، وقد اختار الله ـ نموذجًا ومثالًا يُحتذى، وقدوةً صالحةً في قصة يوسف
عليه السلام لكلّ الشباب الذين يتعرّضون لهذه الفتنة ولهذا الاختبار على مرِّ العصور والأجيال، وقد ذكر العلماء أن شرائط الفتنة قد اجتمعت في هذا النموذج، بحيث إنها باتت سقفًا لا تدانيه فتنة أخرى، ومن هذه الشرائط:
أولًا: أن يوسف
عليه السلام قد حباه الله بأركان الحُسن مجتمعة؛ فهو جميلٌ في صورته حتى سلب عقول النسوة
﴿فَلَمَّا رَأَیۡنَهُۥۤ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَیۡدِیَهُنَّ وَقُلۡنَ حَـٰشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا مَلَكࣱ كَرِیمࣱ﴾، وجميلٌ في خُلقه وأدبه وإحسانه حتى بهَرَ المسجونين في السجن فقالوا له:
﴿إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾، وهو جميلٌ في ذكائه وقوة شخصيّته، وحسن تدبيره
﴿قَالَ ٱجۡعَلۡنِی عَلَىٰ خَزَاۤىِٕنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ﴾ حتى قال فيه الملك:
﴿ٱئۡتُونِی بِهِۦۤ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِیۖ﴾، ومن كانت فيه واحدةٌ من هذه كان أهلًا لأَن يُحَبّ، فكيف بمَن اجتمَعْن فيه؟
ثانيًا: أنه
عليه السلام كان في أَوج شبابه وقوته
﴿قَالَ یَـٰبُشۡرَىٰ هَـٰذَا غُلَـٰمࣱۚ﴾ وقد ترعرع هذا الغلام حتى بلغ مبلغ الرجال
﴿بَلَغَ أَشُدَّهُۥۤ﴾ في قصرٍ من قصور الأمراء، ومثله في هذا السنّ تدفع به غريزته كلّ مدفع.
ثالثًا: أنه عاش هذه الفتنة غريبًا، لا يعرف في مصر قريبًا ولا صديقًا، والغربة تكسِرُ كثيرًا من الحواجز، وتجعَلُ الغريب أكثر جُرأةً على فعل ما يمتنع عن فعله في بلده وبين أهله وعشيرته.
رابعًا: أن لقاءه بامرأة العزيز لم يكن لقاءًا عابرًا في سوقٍ أو طريقٍ، بل كان يعيش معها في القصر من سنّ الصبا حتى بلغ عندهم ما بلغ، وهذه لوحدها تكفي لتصوّر شدة الفتنة التي يُواجهها هذا النبيّ الكريم.
خامسًا: أن امرأة العزيز هي من بادَرَت وطلبت منه بُغيتها
﴿وَرَ ٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِی هُوَ فِی بَیۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَ ٰبَ وَقَالَتۡ هَیۡتَ لَكَۚ﴾ فهي التي كسَرَت حاجز الحياء وتجرّأت على المبادرة، وزادَت بأن غلّقت الأبواب، وأخلَت المشهدَ من كلّ غريبٍ أو رقيبٍ.
سادسًا: أنها كانت متنفِّذة في القصر، حتى إنها أصرََّت على رغبتها بعد انكِشاف أمرها أمام زوجها، وشيُوع الخبر بين أهل المدينة ونسائِهم، فواجهتهنَّ بقولها:
﴿فَذَ ٰلِكُنَّ ٱلَّذِی لُمۡتُنَّنِی فِیهِۖ وَلَقَدۡ رَ ٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ فَٱسۡتَعۡصَمَۖ وَلَىِٕن لَّمۡ یَفۡعَلۡ مَاۤ ءَامُرُهُۥ لَیُسۡجَنَنَّ وَلَیَكُونࣰا مِّنَ ٱلصَّـٰغِرِینَ﴾.
سابعًا: أنّ زوجها لم يكن بالصفة التي يُخشى منه، فإنَّه اكتَفَى بقوله:
﴿یُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَـٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِی لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔینَ﴾ مع أنه رأى القميص الذي قدّ من دبرٍ، وسمِعَ الشاهدَ يشهَدُ ليوسف في قوله:
﴿هِیَ رَ ٰوَدَتۡنِی عَن نَّفۡسِیۚ﴾.
ثامنًا: أن يوسف أدرَك أنه إن لم يستجِب لها فإنه سيُحرَم من نعيم القصر، وسيُرمَى في السجن، أو يكون عُرضةً لانتقامها بأي وسيلةٍ أخرى، وهو في بلدٍ غريبٍ ليس معه جاه، ولا مال، ولا أهل، ولا ملجأ، ومع كلّ هذا كان خيارُه واضِحًا مُجلجِلًا:
﴿قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَیَّ مِمَّا یَدۡعُونَنِیۤ إِلَیۡهِۖ﴾ وبهذا يكون قد ضرَبَ المثَلَ
الأعلى الذي لا يُدانِيه مثَل في قصة نجاحٍ لا تتكرَّر أبدًا بمثل هذه الشروط في أي جِيلٍ من الأجيال.