﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا رَأَوُاْ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَیَسۡجُنُنَّهُۥ﴾ بدا لهم رأي آخر؛ حيث اكتفى العزيز أولا بقوله:
﴿یُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَـٰذَاۚ﴾ ثم لما تحدّث النسوة وشاع الخبر رأوا أن يسجنوه دفعًا للتهمة عن امرأة العزيز، وقوله:
﴿مِّنۢ بَعۡدِ مَا رَأَوُاْ ٱلۡـَٔایَـٰتِ﴾ أي: مع أنهم يعلمون براءته؛ لما رأوه من دلائل في القميص وغيره.
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَیَانِۖ﴾ غلامان كانا في خدمة الملك، أحدهما يصنع له طعامه، والثاني يصنع له شرابه.
﴿إِنِّیۤ أَرَىٰنِیۤ أَعۡصِرُ خَمۡرࣰاۖ﴾ رأيت نفسي في المنام أصنع الخمر.
﴿قَالَ لَا یَأۡتِیكُمَا طَعَامࣱ تُرۡزَقَانِهِۦۤ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِیلِهِۦ قَبۡلَ أَن یَأۡتِیَكُمَاۚ﴾ فكان يخبرهما بما يأتيهما من طعامٍ قبل أن يصل إليهما، وفائدة هذا الإخبار تعزيز الثقة بما خصَّه الله به من العلم؛ ولذلك قال بعدها:
﴿ذَ ٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِی رَبِّیۤۚ﴾ وكلّ هذا تمهيد لدعوتهما إلى التوحيد
﴿إِنِّی تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡمࣲ لَّا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ كَـٰفِرُونَ﴾.
ولا يبعُد أيضًا أنه قصد تأخير الجواب إلى وقت مجيء الطعام؛ ليجذب قلوبهما إليه في هذا الوقت وهو يدعوهم إلى التوحيد.
﴿مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦۤ إِلَّاۤ أَسۡمَاۤءࣰ سَمَّیۡتُمُوهَاۤ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُم﴾ فهي مجرد أسماء لا حقيقة لها، بمعنى أنهم يسمونها آلهة وما هي بآلهة، وفي الآية دلالة على أن أهل مصر في ذلك
العصر كانوا على الشِّرك.
﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّاۤ إِیَّاهُۚ﴾تسلسُل مقصود، فإثبات حقّ الله في الحكم والتشريع أولًا، ثم يأتي أمر الله ونهيه وهما فرع الحكم، ثم تأتي العبادة وهي الخضوع لهذا الأمر والنهي.
﴿ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ﴾ العدل المستقيم والحقّ الذي لا عوج فيه.
﴿أَمَّاۤ أَحَدُكُمَا فَیَسۡقِی رَبَّهُۥ خَمۡرࣰاۖ﴾ بشارة للساقي بالخروج من السجن، وأنه سيرجع إلى خدمة الملك، وهذا تأويل رؤياه
﴿إِنِّیۤ أَرَىٰنِیۤ أَعۡصِرُ خَمۡرࣰاۖ﴾.
﴿وَأَمَّا ٱلۡـَٔاخَرُ فَیُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّیۡرُ مِن رَّأۡسِهِۦۚ﴾ تأويل لرؤياه
﴿إِنِّیۤ أَرَىٰنِیۤ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِی خُبۡزࣰا تَأۡكُلُ ٱلطَّیۡرُ مِنۡهُۖ﴾.
﴿وَقَالَ لِلَّذِی ظَنَّ أَنَّهُۥ نَاجࣲ مِّنۡهُمَا ٱذۡكُرۡنِی عِندَ رَبِّكَ﴾ قال للساقي: اذكُر قصَّتي للملك، المتضمِّنة لمظلَمَته، ولِمَا ظهر للمسجونين من إحسانه وعلمه.
﴿فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ﴾ أنسَى الشيطانُ الساقِي فلم يتذكَّر وصيةَ يوسف
عليه السلام؛ ولذلك قال الله عنه فيما بعد:
﴿وَقَالَ ٱلَّذِی نَجَا مِنۡهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ﴾.
﴿وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّیۤ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَ ٰتࣲ سِمَانࣲ یَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافࣱ﴾ العِجاف جمع عَجْفاء، وهي ذات الهزال والضعف الشديد، ورؤيا الملك التي عبَّرَها يوسف
عليه السلام وكذاك رؤيا المسجونَين دليلٌ على أن الرؤيا الصادقة ليس من شرطِها الإيمان والإسلام، فهؤلاء لم يكونوا مُؤمِنِين ولا مُسلِمِين، والله أعلم.
﴿قَالُوۤاْ أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمࣲۖ وَمَا نَحۡنُ بِتَأۡوِیلِ ٱلۡأَحۡلَـٰمِ بِعَـٰلِمِینَ﴾ اعتذار من مستشاري الملك أنهم لا يستطيعون تأويل رؤياه، وقولهم:
﴿أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمࣲۖ﴾ أصل الأضغاث بقايا النبات وأعواده المختلطة، ويعنون به هنا أن الأحلام قد تختلط فيصعب تمييزها وتعبيرها.
﴿وَقَالَ ٱلَّذِی نَجَا مِنۡهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعۡدَ أُمَّةٍ﴾ هو الساقي الذي نجا من السجن، ونسي وصية يوسف له، لكنه عاد بعد زمنٍ طويلٍ فتذكّرها لما رآهم مشغولين برؤيا الملك.
﴿أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِیلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ﴾ آتيكم بتأويله، يعني أنه سيذهب إلى السجن ويستفتي فيها يوسف.
﴿یُوسُفُ أَیُّهَا ٱلصِّدِّیقُ﴾ الساقي يخاطب يوسف في السجن، والصدِّيق المتصف بكثرة الصدق.
﴿تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِینَ دَأَبࣰا﴾ تستمرّون على الزراعة سبع سنين، في إشارة للبقرات السمان والسنبلات الخضر.
﴿فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِی سُنۢبُلِهِۦۤ﴾ يرشدهم إلى وسيلة لحفظ الحبوب، فالحب في سنبله أطول عمرًا وأكثر مقاومة، وفيه أيضًا توفير غذاء
الأنعام، بخلاف ما لو خزنوا الحبّ وحده.
﴿إِلَّا قَلِیلࣰا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ﴾ استثناء يفيد الحرص والادخار، فلا يخرجون الحبّ إلا عند الحاجة إلى الأكل.
﴿ثُمَّ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ سَبۡعࣱ شِدَادࣱ﴾ سبع سنين من القحط وانحباس المطر، وفيه إشارة للبقرات العجاف والسنبلات اليابسات.
﴿یَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ﴾ ينفد ما ادخرتموه من الحبوب، بسبب حاجة الناس المستمرة إلى الأكل مع انقطاع المورد إلا من المخزون، وفيه إشارة لأكل البقرات العجاف للسمان.
﴿وَفِیهِ یَعۡصِرُونَ﴾ الخمر، علامةٌ على وَفرة الطعام.
﴿مَا خَطۡبُكُنَّ﴾ الخَطْبُ هو الشأن المهم.
﴿إِذۡ رَ ٰوَدتُّنَّ یُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ﴾ نسب المراودة للجمع إشارة إلى وقوعه من غير امرأة العزيز أيضًا، ويُعضِّد هذا دعاؤه المتقدم:
﴿وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّی كَیۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَیۡهِنَّ﴾ وسؤال الملك للنسوة بهذه الصيغة مشعر أن الملك قال هذا بعد جمعه للمعلومات وتحققه من براءة يوسف.
﴿ٱلۡـَٔـٰنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ﴾ ظهر وتأكّد بعد لبسٍ وخفاءٍ.
﴿ذَ ٰلِكَ لِیَعۡلَمَ أَنِّی لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَیۡبِ﴾ اختلف المفسرون في نسبة هذا القول، والظاهر من السياق أنه كلامٌ مُتَّصِلٌ لامرأة العزيز، ومعناه أنها لم تَخُن يوسف في هذا الموضع، وهو موضعُ التحقيق في حضرة الملك؛ حيث شهِدَت بصِدقِه وبراءَتِه.
وفيه لمحة ظاهرة من الندم والحُنُوِّ على يوسف الذي كان قد تعلَّق قلبُها به، وهذه لحظاتٌ مُعتادة بعد مُضيِّ سنواتٍ طوال من العناد والظلم والمكابرة.
﴿۞ وَمَاۤ أُبَرِّئُ نَفۡسِیۤۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوۤءِ﴾ كلامها المتصل، وفيه اعترافٌ بذنبها، واعتذارٌ وندمٌ على ما بدَرَ منها، والله يغفر لنا ولها.