سورة يوسف تفسير مجالس النور الآية 54

وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِی بِهِۦۤ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِیۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡیَوۡمَ لَدَیۡنَا مَكِینٌ أَمِینࣱ ﴿٥٤﴾

تفسير مجالس النور سورة يوسف

المجلس التاسع والتسعون: فتنة الملك


من الآية (54- 79)


كما خرج يوسف عليه السلام من البئر إلى القصر، ها هو اليوم يخرج من السجن إلى العرش، في قصة فريدة في مشاهدها وانتقالاتها وسرعة أحداثها، وفي كلّ مشهدٍ يضرب يوسف المثل الأعلى لكلّ مقتدٍ ومتأسٍ مهما كان موقعه وظرفه الذي يمرّ به، وفي هذا المشهد عبرة لكلّ مشتغلٍ في السياسة العامة والوظائف التي تتعلَّق بها مصائر العباد ومصالحهم:
أولًا: يوسف عليه السلام يطلب الولاية العامة ﴿قَالَ ٱجۡعَلۡنِی عَلَىٰ خَزَاۤىِٕنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ﴾ وقد أثارت هذه النقطة إشكالًا فقهيًّا كبيرًا؛ حيث استقر في الأذهان أنه من طلب الإمارة لا يؤمَّر، وهذه مسألةٌ تحتاج إلى بحثٍ أوسع:
إن مجموع الأحاديث الواردة في هذه المسألة لا يوحي بالتحريم، والأقرب فيه التوجيه والإرشاد، وهذا هو المفهوم من حديث عبد الرحمن بن سمرة  أن رسول الله قال له: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ! لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيْتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا».
والحديث فيه توجيهٌ دقيقٌ، وهو تقريرٌ أيضًا لواقعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ معروف، فالناس يتحملون مع أميرهم كامل المسؤولية إن كانوا هم الذين اختاروه، بخلاف ما إذا كان مفروضًا عليهم، وفي حديث أبي ذر : قلتُ: يا رسول الله! ألا تستعمِلني؟ قال: فضرَبَ بيده على منكبي ثم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّكَ ضَعِيْفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ». فلم ينهَه عن السؤال أصلًا، ولو كان محرّمًا لنهاه، بل بيَّن له سببَ حَجبِه عن الولاية أنه ضعيف، وقد يشكل على هذا حديثُ: «إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا العَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرِصَ عَلَيْهِ».
وهذا بيانٌ صريحٌ لسياسته في اختيار الولاة والأمراء، وليس نهيًا صريحًا عن الترشيح أو التقدُّم للولاية، لكنه من حيث النتيجة لن يكون في ظلِّ هذه السياسة ترشيح ولا تقدُّم، والفيصل هنا في تحديد هذه السياسة إن كانت حكمًا شرعيًّا عامًّا بلَّغه رسول الله باعتباره نبيًّا، أو أنها من الأمور الإدارية التي كان رسول الله يمارسها باعتباره قائدًا ورئيسًا للدولة كمثل أعمال الجهاد والتحالفات والعلاقات السياسيّة، وهذه الأصل فيها تقدير الموقف زمانًا ومكانًا وحالًا، ولا يمكن أن تُدار بتشريعٍ ثابتٍ؛ ولذلك اختلفت طبيعة المعارك النبويّة وأسلوب إدارتها، واختلف أيضًا تعامله مع المخالفين.
وعليه يمكن القول: إنّ طلب يوسف عليه السلام للولاية لا يناقض هذا الحديث، بل كان ذلك متعينًا عليه في ذلك الظرف؛ فإنقاذ شعب مصر من الهلاك أَولَى من الزهد في طلب الولاية أو التورّع عن آثارها ولوازمها في طبائع البشر، كالمنافسة والمحاسدة والتطلُّع إلى الصدارة والوجاهة، والظرف الذي مرّ به يوسف عليه السلام ظرف يتكرر.
وقد تحتاج الأمة من أصحاب الكفاءات أن يُظهِروا ما عندهم وأن يبيّنوا أفكارهم ومشاريعهم للإنقاذ، وهذا هو الذي استقرّت عليه السياسات العالميّة؛ إذ أصبح من العسير التعرّف على الكفاءات والوصول إليها حتى من قبل الحكومات وولاة الأمر، وتبقى للإسلام ميزة الجمع بين قِيَم الزهد والورع ومحاسبة النفس، وبين الشعور بالمسؤولية، والتصدي للشأن العام.
تجدُرُ الإشارة هنا أنّ يوسف عليه السلام لم يطلب الولاية ابتداء، بل اختارها بعد أن نال ثقة الملك حتى قال: ﴿ٱئۡتُونِی بِهِۦۤ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِیۖ﴾، ثم قال له: ﴿إِنَّكَ ٱلۡیَوۡمَ لَدَیۡنَا مَكِینٌ أَمِینࣱ﴾ وهذه حكمة يوسُفيَّة: أن المتقدّم للولاية عليه اختيار اللحظة المناسبة والظرف المناسب.
ثانيًا: مكّن الله ليوسف في الأرض ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ تحقيقًا لبشارته الأولى ﴿إِنِّی رَأَیۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَیۡتُهُمۡ لِی سَـٰجِدِینَ﴾ وقد استند هذا التمكين على منظومة من القيم: ﴿إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ﴾.
فالحفظ دليل التزكية والتربية الصالحة، والعلم دليل الإعداد المعرفي القادر على إدارة الدولة وشؤون الناس، وهما شرطا التمكين، وإنما يأتي الخلل في كلّ الوظائف العامة من نقص هذَين الشرطَين أو فقدهما.
إنّ أموال الدولة ومقدراتها تتطلب يدًا أمينة تحافظ عليها، وعقلًا سليمًا يحسن إدارتها والتصرّف فيها، وهما شرطا التقدم لمثل هذه الوظائف، ثم تأتي القيم الأخرى مرتكزة عليهما مثل العدل ﴿قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُۥۤ إِنَّـاۤ إِذࣰا لَّظَـٰلِمُونَ﴾ والإحسان ﴿أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّیۤ أُوفِی ٱلۡكَیۡلَ وَأَنَا۠ خَیۡرُ ٱلۡمُنزِلِینَ﴾ حتى اعترف له إخوته قبل أن يعرفوه ﴿فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾.
وهذا خُلقٌ يوسفيٌّ متكرر في هذه السورة، والحلم ﴿۞ قَالُوۤاْ إِن یَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخࣱ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا یُوسُفُ فِی نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ یُبۡدِهَا لَهُمۡۚ﴾ وكان باستطاعته أن يبطش بهم لإساءتهم هذه ولموقفهم السابق منه.
ثالثًا: المشاركة السياسية، وهي المسألة الأهم والأكبر في هذه الآيات، والتي لم تعط حظها من البحث والدراسة في كلّ ما اطلعت عليه، وهي ركيزة السياسة الشرعيّة خاصة في الأزمان التي نعيشها والتي تكاد أن تخلو من نظامٍ إسلاميٍّ صافٍ وشاملٍ، فأصبح أهل العلم والفضل بين خيارين؛ مشاركة ملوّثة بالظلم والسفَه، وربما بالكفر والخروج عن أحكام الشرع، أو اعتزال بائس، وانزواء عن حركة الحياة، وترك الدفة لكلّ جاهلٍ وعابثٍ وماكرٍ.
إنّ يوسف عليه السلام قد شارك في حكومةٍ "كافرة" لا تَدِينُ بدينه، وقد نصّ القرآن على هذا بقوله: ﴿مَا كَانَ لِیَأۡخُذَ أَخَاهُ فِی دِینِ ٱلۡمَلِكِ﴾ فللمَلِك دينٌ غير دين يوسف، وبهذا تنكَسِرُ عُقدة (الولاء والبراء) في هذه المسألة، والتي يستند إليها بعضُهم في تحريم المشاركة، بمعنى أنّ مشاركة المسلمين لغيرهم في إدارة الدولة لا تَقدَحُ في عقيدة الولاء والبراء، ولا ينطبق عليها مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرۡكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ﴾ [هود: 113]، ولا مثل قوله: ﴿وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ﴾ [المائدة: 51]، ومعلوم أن هذه من أبواب العقيدة، والعقائد لا يلحقها نسخ، ولا يجري فيها خلاف بين الرسالات السماويّة مهما تباعدت أزمانها.
إذا خرجت هذه المسألة من دائرة العقيدة فإنها ستدخل في دائرة الفقه، وهي دائرة الاجتهاد الأوسع الذي يختلف زمانًا ومكانًا وحالًا، والذي يدخل فيه إلى جانب استقراء النصوص الواردة وتدبرها النظر في مصالح العباد والتقدير الدقيق للنتائج والعواقب، وهذه مساحة قابلة للاختلاف وتباين الآراء وليس أحد في هذا حُجّة على أحد.
إن يوسف عليه السلام يعلمنا في هذه المشاركة أن المسلم ليس مطلوبًا منه أن يبلّغ الدعوة وأن يقيم الأحكام الشرعيّة فقط، بل هو مكلف بالمساهمة في إنقاذ الناس ومساعدتهم ولو كانوا غير مسلمين، فقد كان الجهد الأكبر ليوسف مركّزًا في إنقاذ شعب مصر من الجوع، ولو كان هذا بمسايرتهم وفق أنظمتهم وقوانينهم، مع التمايز الواضح في باب الإيمان ﴿یَـٰصَـٰحِبَیِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابࣱ مُّتَفَرِّقُونَ خَیۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّارُ﴾.
أما الذين يظنون أننا ممنوعون من تقديم برامج الإنقاذ وخطط الإصلاح إلا في "حكومة إسلاميّة" ونظام إسلامي شامل، فهم واهمون؛ فمهمة إنقاذ الناس من الموت والفقر والظلم ينبغي أن لا تتأخر عن إنقاذهم من الكفر، وفي قصّة التمكين هذه بيان وافٍ وكافٍ.
إنّ المسلم إنسان يعيش مع بقية الناس، وهو مكلف بدعوتهم إلى الإيمان، فإن استجابوا خضعوا جميعًا لحكم الله، وإن لم يستجيبوا فلن يكون المسلم أداة في تخريب هذا المجتمع أو تدمير هذه الحياة.
ومثال ذلك: المسلمون الذين يعيشون في بلاد الغرب ونحوها، فهناك دول قائمة بأنظمة توفّر قدرًا من العدل والحرية وحقوق الإنسان مع مخالفات صريحة ومتوقّعة لأحكام الشرع، وليس هناك من فرصة لإقناعهم بتغيير هذه القوانين، فيكون المسلم من الناحية العمليّة بين خيارين؛ إما المحافظة على هذا النظام والعمل بما هو متاح ومستطاع، أو إعلان التمرّد وتشجيع الفوضى، والذي يقرأ رسالة الإسلام الحقَّة وغاياتها الكبرى لا يمكن أن يجنح بحال إلى هذه الفوضى؛ حيث سيكون المسلم سببًا في الخراب وضياع الحقوق وتشويه الإسلام نفسه وصدّ الخَلق عنه.
رابعًا: الكيد، وهذا سلوكٌ ظاهرٌ في أطراف هذه القصة، بدأ به إخوة يوسف ﴿فَیَكِیدُواْ لَكَ كَیۡدًاۖ﴾ فكادوا بيوسف حتى أخذوه من أبيه وألقوه في البئر، ثم كادوا بأبيهم وحاولوا خداعه ﴿وَجَاۤءُو عَلَىٰ قَمِیصِهِۦ بِدَمࣲ كَذِبࣲۚ﴾، ثم جاء كيد النسوة ﴿إِنَّهُۥ مِن كَیۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَیۡدَكُنَّ عَظِیمࣱ﴾، ﴿وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّی كَیۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَیۡهِنَّ﴾.
ولقد تعلّم يوسف عليه السلام من كلّ هذا أن الذي يريد أن يسوس الناس لا بُدّ أن يكون خبيرًا وعارفًا بهذه الأساليب، وإلا فإنه سيقع ضحيّة لهذا الكيد.
ثم إنّه عليه السلام يعلّمنا درسًا آخر: أن التدبير الفطن الذكي لا بُدّ منه للوصول إلى الحلول المناسبة، بخلاف المواجهة والتصدّي المباشر، وهذا هو الكيد المشروع ﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ كِدۡنَا لِیُوسُفَۖ﴾ وقد سمى الله هذا النوع من الكيد علمًا ﴿نَرۡفَعُ دَرَجَـٰتࣲ مَّن نَّشَاۤءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِی عِلۡمٍ عَلِیمࣱ﴾.


﴿أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِیۖ﴾ أجعله خالصًا لي ومقرّبًا مني، وفيه انبهار الملك بصفات يوسف عليه السلام وحكمته وحسن تدبيره، وفيه قاعدة جليلة في علاقة المسلم بغيره، فالثقة والمودّة وما ينتج عنهما من تواصلٍ وتعاونٍ أصلٌ في العلاقات الإنسانيّة، وبابٌ واسعٌ للدعوة والإصلاح، ومن توهَّمَ أن هذا مناقض للولاء والبراء فقد ردّ منطوق الآية ومفهومها، كيف وقد ردّ يوسف عليه السلام بالإيجاب فقال: ﴿ٱجۡعَلۡنِی عَلَىٰ خَزَاۤىِٕنِ ٱلۡأَرۡضِۖ﴾.
﴿إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ﴾ شرطا الولاية والوظائف العامة؛ الأمانة والعلم.
﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ﴾ بداية تحقّق الرؤيا التي رآها في صباه.
﴿فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ أرض مصر.
﴿فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ﴾ لأنهم ترَكُوه في الجُبِّ صغيرًا، والنموُّ يُغيِّر بِنْيَة الصغير وصورَتَه أكثر مما يُغيِّرهما في الكبير، مع التغيُّر الذي طرَأَ على يوسف في قصر الملك وهَيبَة الحكم.
﴿جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ﴾ أعطى لكلّ واحدٍ منهم ما تحمل دابته من الطعام.
﴿ٱئۡتُونِی بِأَخࣲ لَّكُم مِّنۡ أَبِیكُمۡۚ﴾ إشارة إلى حديثٍ سابق بينه وبينهم حول مجيئهم وحاجتهم للميرة وعدد من يعيلون، بمعنى أنه عليه السلام قد استدرجهم دون أن يشعروا ليخبروه عن أبويه وشقيقه الأصغر، وهذا أمرٌ متوقعٌ وإن لم يصرّح به القرآن، وفيه أنه جهزهم أولًا بجهازهم وسدّ حاجتهم قبل أن يطلب منهم إحضار أخيهم، ليطمئنهم ويرغبهم، والله أعلم.
﴿خَیۡرُ ٱلۡمُنزِلِینَ﴾ النزل: الضيافة، كأنه يرغبهم بالمجيء مرة ثانية.
﴿فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِی بِهِۦ فَلَا كَیۡلَ لَكُمۡ عِندِی وَلَا تَقۡرَبُونِ﴾ طلب غريب بالنسبة لهم، لماذا يحرص عزيز مصر على رؤية أخيهم؟ لكن الغريب أيضًا أنهم لم يستغربوا! وغالب الظن أن هذا جارٍ في سياق لم يفصّله القرآن، فربما كان يوسف عليه السلام لما استدرجهم للحديث عن أهلهم وأخيهم، أظهر لهم ما يستدعي التوثيق كعادة الحكّام والأجهزة التابعة لهم، فالسياق أنه يكلمهم باسم الدولة ونظامها وليس باسمه الشخصي، والطلب في هذا السياق يبدو طبيعيًّا، والله أعلم.
﴿ٱجۡعَلُواْ بِضَـٰعَتَهُمۡ فِی رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَعۡرِفُونَهَاۤ إِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ أي: أثمان ما أخذوه من طعامٍ، لعل هذا يكون أدعى إلى رجوعهم مرة أخرى إلى مصر، لأنهم لا يستحلّون هذه الأثمان بعد أن أخذوا بضاعتهم.
﴿مُنِعَ مِنَّا ٱلۡكَیۡلُ﴾ أي: يمنع عنا الكيل إذا لم نأخذ أخانا معنا، إشارةً لقول يوسف المتقدم: ﴿فَإِن لَّمۡ تَأۡتُونِی بِهِۦ فَلَا كَیۡلَ لَكُمۡ عِندِی﴾.
﴿قَالَ هَلۡ ءَامَنُكُمۡ عَلَیۡهِ إِلَّا كَمَاۤ أَمِنتُكُمۡ عَلَىٰۤ أَخِیهِ مِن قَبۡلُ﴾ فيه مشروعيّة الحذر وسوء الظن بأصحاب السوابق.
﴿وَجَدُواْ بِضَـٰعَتَهُمۡ رُدَّتۡ إِلَیۡهِمۡۖ﴾ أي: الأثمان التي وضعها فتيان يوسف مع الطعام.
﴿وَنَمِیرُ أَهۡلَنَا﴾ نجلِبُ لهم المِيْرَة.
﴿وَقَالَ یَـٰبَنِیَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَ ٰ⁠بࣲ مُّتَفَرِّقَةࣲۖ﴾ ربما خاف عليهم العين أو الحسد، لكنه لا يبعد أيضًا أن يكون هناك محاذير أخرى، فدخولهم جميعًا على هيئة واحدة وهم غرباء قد يثير تساؤلات وإشكالات هم في غنى عنها، وهذه مجرد تفسيرات للحاجة التي قال الله فيها: ﴿مَّا كَانَ یُغۡنِی عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَیۡءٍ إِلَّا حَاجَةࣰ فِی نَفۡسِ یَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ﴾ والله أعلم.
﴿ءَاوَىٰۤ إِلَیۡهِ أَخَاهُۖ﴾ ضمّه إليه، بعد طول غياب وفراق، ويا لها من لحظات.
﴿قَالَ إِنِّیۤ أَنَا۠ أَخُوكَ فَلَا تَبۡتَىِٕسۡ بِمَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾ لا تشعر بالبؤس، وأنَّى له أن يتذكَّر ذلك البُؤس وهو الآن في كَنَفِ أخِيه الحبيب.
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَایَةَ فِی رَحۡلِ أَخِیهِ﴾ وهي صواع الملك الذي يكِيلُون به؛ حيث بدأت خطة يوسف عليه السلام لاستبقاء أخيه، ووفادة أبيه، واستقرار الأسرة الكريمة كلها في أرض مصر.
﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ نادى مُنادٍ.
﴿ٱلۡعِیرُ﴾ القافلة.
﴿قَالُواْ وَأَقۡبَلُواْ عَلَیۡهِم مَّاذَا تَفۡقِدُونَ﴾ كأن إخوة يوسف قد انصرفوا قليلًا بعد أن جُهّزوا بجهازهم، فلما سمعوا النداء انعطفوا عليه.
﴿وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِیمࣱ﴾ ضامن، أي: للمكافأة وهي حِمل بعيرٍ من الطعام.
﴿قَالُواْ فَمَا جَزَٰٓؤُهُۥٓ إِن كُنتُمۡ كَـٰذِبِینَ﴾ استِنطاق لحكم السارق عندهم، وهو غير حكمه عند المصريين.
﴿قَالُواْ جَزَٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِی رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَٰٓؤُهُۥ ۚ﴾ أي: أن السارِقَ يُسلَّم للمسروق منه، وقد صدَقُوا في قولهم، وهذا دليلٌ على أنهم أهل دين، وما فعلوه بأخيهم إنما هو الحسد الذي يُعمِي ويُصِمُّ، والعياذ بالله.
﴿فَبَدَأَ بِأَوۡعِیَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَاۤءِ أَخِیهِ﴾ لكي لا يُثير شكَّهم.
﴿ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَاۤءِ أَخِیهِۚ﴾ وهو عارِفٌ بها.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ كِدۡنَا لِیُوسُفَۖ﴾ علّمناه الكيد المحمود، وهو هنا حسن التدبير، والتوصُّل للمقصود.
﴿مَا كَانَ لِیَأۡخُذَ أَخَاهُ فِی دِینِ ٱلۡمَلِكِ﴾ أي: في شريعته، وهذا دليلٌ على أن يوسف عليه السلام كان يقضِي في كلّ ما يَعرِض عليه بحكم الملك، وهذا أصلٌ في كلّ من يتولَّى ولايةً في دولة أخرى ليست على شريعَتِنا، وليس في هذا ثَلْمٌ لعقيدة الولاء والبراء، ولا تعارُض مع قوله: ﴿وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَــٰۤـىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]؛ فالحكم له صفاته وشروطه ومقدماته، فإذا تخلفت تخلّف الحكم، كما في الحدود التفصيليّة كحد السرقة الذي أوقفه الصحابة  في الحروب وفي عام المجاعة، والله أعلم.
﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِی عِلۡمٍ عَلِیمࣱ﴾ إشارة إلى أن ذلك الكيد والتخطيط والتدبير داخل في مسمّى العلم، يؤكّده قول يوسف عليه السلام آنفًا: ﴿إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ﴾.
﴿۞ قَالُوۤاْ إِن یَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخࣱ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ﴾ اتِّهامٌ ليوسف، وكأن الحسد الذي في قلوبهم لم تُطفأ جمرته بعد، فيوسف على عهدهم كان غلامًا صغيرًا، وقد ألقَوه في الجُبِّ وانقطع عنهم خبَرُه، فقولهم هذا لا معنى له إلا إيغار صدر العزيز على أخِيهم الثاني، والذي هو شقيقُ يوسف.
أما ما يتردَّد من روايات أن يوسف كان في طفولته قد سرق، فهذه لا تصحُّ سندًا ولا متنًا، ولا يصحُّ اعتمادُها أصلًا، والله أعلم.
﴿فَأَسَرَّهَا یُوسُفُ فِی نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ یُبۡدِهَا لَهُمۡۚ﴾ الأقرب للسياق أنه لم يظهر تأثره وغضبه على اتهامهم هذا، فكأنه لم يسمعهم، وهذا من حلمه وفطنته.
﴿قَالَ أَنتُمۡ شَرࣱّ مَّكَانࣰاۖ﴾ والظاهر أن هذا القول قاله في نفسه أيضًا، إذ لو صرّح به لاقتضى منه موقفًا ما تجاههم وهو صاحب الأمر، والسياق خلا من أيّ إشارةٍ بهذا المعنى.
﴿فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥۤۖ﴾ أي: بدلًا عنه؛ لأن البدل يُوضع في العادة مكان المُبدَل عنه، وعرضهم هذا يُوحِي بتيقُّظ عاطفتهم تجاه أبِيهم واستعدادهم جميعًا للفداء، وربما يكون الكلام على معنى الاستعطاف، خاصةً أنهم قدَّمُوا له بحالة أبيهم الشيخ الكبير، وختَمُوه بقولهم: ﴿إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾.
﴿قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُۥۤ﴾ ولم يقل: من سرق؛ لأنه لم يسرق وإنما وجدوا متاعهم عنده، وهكذا يكون الصدق حتى في مثل هذه الأحوال التي تتطلب التمويه والحيلة.