سورة الرعد تفسير مجالس النور الآية 3

وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ ﴿٣﴾

تفسير مجالس النور سورة الرعد

المجلس الثاني بعد المائة: سبيل الهداية


من الآية (1- 15)


تُعالِجُ هذه السورة في آياتها الأُول قضيَّة الهداية، والأسباب الموصلة إلى الطريق الحقِّ، وما يحُول بين الإنسان وبين هذه الطريق ﴿وَٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾.
محور هذه الآيات يدور حول الكون، الذي هو مجال النظر الفسيح لكلِّ باحِثٍ عن الحقِّ ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ﴾، ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ﴾، ﴿وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰ⁠تࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ﴾، ﴿هُوَ ٱلَّذِی یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا وَیُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ﴾، ﴿ٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِیضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَیۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ﴾.
في ثنايا هذا العرض لمُفردات الكون التي يمرُّ بها الإنسان ويتعامل معها كلَّ يوم يُنبِّه القرآن إلى ضرورة إعمال العقل ﴿إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾، ﴿إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾.
فالحقائق المركونة على رفوف المعرفة مهما كانت لا يمكن أن تكون سببًا للهداية ما لم يتَّصِل بها نظرُ الإنسان محاولًا استِنطاقها وباحثًا عمَّا وراءها، وحينما يُعطِّل الإنسانُ هذه الوظيفة في داخِلِه فإن تلك الحقائق ستكون مجرَّد مألوفات جامِدة لا يتَّصِل بها الإنسان إلا ابتِغاء المتاع وسدِّ حاجة الجسد.
ثم يُعرِّج القرآنُ إلى قانونٍ مكمِّلٍ لما سبَق، فالحقيقة تحتاجُ إلى عقلٍ ينظر فيها، والعقل بحاجة إلى عزيمةٍ وإرادةٍ ذاتيَّةٍ تحمِلُه على الانصِياع لمنطق الحقِّ، ومن ثَمَّ فالتغيير بأيِّ صورةٍ جاء مسؤوليَّة ذاتيَّة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾.
فالإرادة هي التي تُحرِّك العقلَ وتدفعه للنظر الجاد، ثم تدفعه للالتزام بالحقِّ الذي توصَّل إليه، أو تُحرِّكه باتجاه الشهوة والمصلحة الآنِيَّة المُجانِبة للحقِّ، وفي الحالَتَين تأتي السنَّة الإلهيَّة متوافقةً مع مسؤوليَّة التكليف هذه دون تحيُّزٍ أو مُحاباةٍ.
إن وجود هذه الحقائق في نسَقٍ وظيفيٍّ واحدٍ؛ بحيث لو اختَلَّت مفردة فيه عن سياقها لاختَلَّت الحياة كلُّها هو دليلٌ ساطعٌ على وجود حكمة لا تتَّسِع لها الصدفة العشوائية.
فلو افترضنا مثلًا أن الترابَ الذي في الأرض لا يصلح للإنبات، أو أن الماء لم ينزل على هذا النبات، أو أنه نزل ولم يكن صالحًا، أو أن الشمس خَفَتَ ضَوؤُها، وذهَبَت طاقَتُها، وهكذا في كلِّ مفردةٍ من هذه المفردات، فكيف ستستقيم الحياة؟ وكيف سيكون شكلها؟ فيا تُرى مَن الذي وضَعَ هذا النظامَ وخصَّصَ هذه الوظائف لكلِّ مفردةٍ من هذه المفردات؟
ثم لو نظر الإنسان في نفسه وهذا التوزيع الوظيفي بين الذكور والإناث والذي بدونه لا يمكن أن تستمر الحياة أو تتعاقَب الأجيال، فهل مثل هذا التصنيف أو التوزيع تحتمله الصدفة؟ وإذا استحالت الصدفة فَمَن ذاك الذي قرَّر أن يخلق الرجل للمرأة أو يخلق المرأة للرجل؟ وأن يمدَّ كلَّ واحدٍ منهما بما يكمِّل نقصَ الآخر؟
يُشير القرآن بعد هذا إلى لجاجَة المشركين وتنكُّبِهم للطريق السويِّ الموصِل للحقيقة، فهم بدل أن يُحاولوا الإجابةَ عن تلك الأسئلة راحُوا يستعجِلُون السؤالَ عن خلق آخر ﴿۞ وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبࣱ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَ ٰ⁠بًا أَءِنَّا لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍۗ﴾.
وهم لو أجابوا عن الخلق الأول لتوصَّلُوا إلى جوابِ الخلق الثاني بطريقةٍ تلقائيَّةٍ، كما قال الله في سورة أخرى: ﴿أَفَعَیِینَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِی لَبۡسࣲ مِّنۡ خَلۡقࣲ جَدِیدࣲ﴾ [ق: 15].
ولكي لا يُترك الإنسان لهواه تضمَّن هذا المقطع آيات من الترغيب والترهيب؛ ليشعر الإنسان بمسؤوليَّة اختياره وسلوكه النظري والعملي ﴿سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ﴾، ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةࣲ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾.


﴿رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ﴾ تنبيهُ الأذهان إلى الناموس الكوني الذي يُمسِك هذه الأجرام العلويَّة كلٌّ في نظامه وفلَكِه، وتعجيزٌ للبشر أن يرفَعُوا سقفًا فوقهم من غير عَمَدٍ مركوزة في الأرض.
﴿مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ﴾ بسَطَها لتكون صالحةً للبناء والزرع والسُّكنَى، وليس فيه نقضٌ لكرويَّتها؛ لأن بَسطَها مُتَّسعٌ لحركة الإنسان كما هو معلومٌ ومُشاهَد، والشكل الكلِّي للأرض غير محسوسٍ في مفردات الحياة، وإنما هو موزونٌ أيضًا لضبط الليل والنهار، كما قال في آية أخرى: ﴿یُكَوِّرُ ٱلَّیۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَیُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّیۡلِ ۖ﴾ [الزمر: 5].
﴿رَوَ ٰ⁠سِیَ﴾ صفة الجبال، وقد اكتَفَى بذِكرها عن ذِكر موصُوفها.
﴿یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ﴾ يُغطِّي النهارَ بالليل، ويحجب عنكم ضوء الشمس بحركة الأرض المعروفة.
﴿صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ﴾ من الشجر ما يتفرَّع عن أصلٍ واحدٍ، ومنها غير ذلك بأن تنبت كلُّ شجرةٍ بمفردها.
﴿یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ﴾ إشارة إلى تنوُّع طعوم الثمرات وتنوُّع ألوانها مع أن غذاءها واحد.
﴿وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّیِّئَةِ﴾ بالعذاب.
﴿وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَـٰتُۗ﴾ تذكير بما أصاب الأقوام السابقة، والمَثُلات جمع مَثُلة بمعنى: العظة والعبرة.
﴿لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۤۗ﴾ هلَّا أُنزِلت عليه معجزة كإحياء الموتى، ونزول المائدة.
﴿إِنَّمَاۤ أَنتَ مُنذِرࣱۖ﴾ قصر إضافي، كأنه قال: إن مهمتك الإنذار وليس صُنع المعجزات، ثم عقب بقولِه: ﴿وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ﴾ فأنت لست بِدعًا من الهداة والدعاة والنبيين من قبلك، والنذارة متضمنة في الهداية، والله أعلم.
﴿وَمَا تَغِیضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ﴾ عام في كلِّ زيادة أو نقصان داخل الرحِم؛ من نزول البويضات الأنثوية، ودخول النُّطَف الذكَرية، وما يتم تلقيحه وما لا يتم، وعدد الأجِنَّة، وزيادة حجم الجنين ونقصانه، والسِّقط الذي يقع قبل اكتمال خلقه .. إلخ، فكلُّ هذا جارٍ على علم الله وكمال تقديرِه وتدبيرِه.
﴿ٱلۡمُتَعَالِ﴾ المتعالي والمنزَّه عن صفات النقص.
﴿مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ﴾ يتخفَّى بظلام الليل.
﴿وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ﴾ سالكٌ طريقه في وضح النهار، فالسارِب والمستخفِي في علم الله سواء.
﴿لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ﴾ ملائكة مُوكَّلون بالعبد يتعاقبون عليه بأمر الله، يُحصون عليه أقواله وأفعاله، فهذا معنى الحفظ هنا بمقتضى السياق، ولا يبعُد أيضًا تناوله لمعنى الصَّون والحماية، والله أعلم.
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ فهذا مناط التكليف والاختبار والتمييز، وتحمل المسؤوليَّة على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدولة.
﴿وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا﴾ عذابًا وعقابًا على انحرافهم وتجنُّبهم طريق الهداية.
﴿وَالٍ﴾ يتولَّاهم بالتأييد والنصرة.
﴿یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفࣰا وَطَمَعࣰا﴾ الخوف من الصواعق والرهبة من صوتها، والطمع بما تحمِله من خيرٍ للأرض والإنسان والأنعام.
﴿وَیُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ﴾ يشهد بعظمة الله.
﴿شَدِیدُ ٱلۡمِحَالِ﴾ شديد القوة والعقوبة.
﴿كَبَـٰسِطِ كَفَّیۡهِ إِلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُغَ فَاهُ﴾ كالظمآن الذي يُشير إلى الماء طمعًا في أن يصِل الماء إلى فمه، وهذا غاية العجز، والتمني الفاسد، والمثال بمُجمله دعوة لتحريك العقول وتحريك الهِمَم لمعرفة الحقِّ والأخذ به.
﴿وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ﴾ حركة الظل من شروق الشمس (وهو الغُدُوُّ)، إلى غروبها (وهو الأصيلُ) محكومة أيضًا بناموس الكون الذي قدَّرَه الله، وأخضَعَ له خَلقَه راغِبِين أو مُكرَهِين.