سورة الرعد تفسير مجالس النور الآية 34

لَّهُمۡ عَذَابࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأَخِرَةِ أَشَقُّۖ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ ﴿٣٤﴾

تفسير مجالس النور سورة الرعد

المجلس الرابع بعد المائة: خاتمةٌ وتذكيرٌ بالحقائق الكبرى


من الآية (33- 43)


اختتمت السورة ببيان الحقائق المتعلقة بهذا الصراع الطويل بين جبهة الحقِّ وجبهة الباطل على اختلاف الزمان والمكان ومن أهمها:
أولًا: أن النظر الصحيح الموصِل إلى العلم لا يمكن إلا أن يقود إلى التوحيد، بخلاف الشرك الذي يدحضه المنطق والفطرة السليمة ﴿أَفَمَنۡ هُوَ قَاۤىِٕمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَـٰهِرࣲ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ﴾.
ثانيًا: أن المشركين إنما يتَّبِعون الهوى والمكر والخداع ﴿بَلۡ زُیِّنَ لِلَّذِینَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِیلِۗ﴾، ﴿وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِیعࣰاۖ﴾، ﴿وَلَىِٕنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَاۤءَهُم بَعۡدَ مَا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا وَاقࣲ﴾ فأصل الشرك هوى، يدفع إليه الكبر والحسد والخوف من فوات المصالح العاجلة، ثم يأتي المكر وتزيين الباطل لكسب الرعاع والأتباع.
ثالثًا: أن المؤمنين يفرحون بالوحي مع ما فيه من أمانةٍ ثقيلةٍ وتكليف؛ لأنه طريق السعادة في دنياهم وأخراهم، أما أحزاب الباطل فلا يقبَلُون منه إلا ما جاء على وفق ما يشتهون ﴿وَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَفۡرَحُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن یُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ﴾.
رابعًا: أن الأنبياء عليهم السلام بشر، ومحكومون بالناموس الذي يحكم البشر جميعًا، فهم يحتاجون إلى الطعام والشراب والنكاح، ولا يملكون القدرات الخارقة إلا ما يُجرِيه الله على أيديهم ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلࣰا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَ ٰ⁠جࣰا وَذُرِّیَّةࣰۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن یَأۡتِیَ بِـَٔایَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱلـلَّـهِۗ﴾
خامسًا: أن وظيفة الرسول البلاغ، وأما الحساب فلله وحده، فهو الذي يحاسب عباده ثوابًا، أو عقابًا، أو عفوًا ومغفرةً ﴿فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُ وَعَلَیۡنَا ٱلۡحِسَابُ﴾.


﴿أَفَمَنۡ هُوَ قَاۤىِٕمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ﴾ بالخلق والتدبير والإحاطة، وجواب السؤال مفهوم من السياق، أي: كمن هو ليس كذلك من أصنامكم التي لا تخلُق ولا تُدبِّر ولا تعلم شيئًا؟
﴿قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ﴾ أي: اذكروا لنا آلهتكم هذه لنرى إن كان منها ما يقدر على الخلق والتدبير! وفي الخطاب تعجيز وتهكُّم لا يخفى.
﴿أَم بِظَـٰهِرࣲ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ﴾ كلامٌ فارغٌ بلا حقيقة ولا بينة.
﴿عُقۡبَى ٱلَّذِینَ ٱتَّقَواْۚ﴾ عاقبتهم ومصيرهم.
﴿وَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَفۡرَحُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَۖ﴾ ظاهرٌ في الثُّلَّة التي أسلمت من أهل الكتاب.
﴿وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن یُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ﴾ إشارة إلى أثر التعصُّب الحزبي في المعاندة ولو كانت على الباطل.
﴿حُكۡمًا عَرَبِیࣰّاۚ﴾ حكم إلهي جاء بلغة العرب، كما قال في سورة إبراهيم التالية: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ﴾ [إبراهيم: 4].
﴿یَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ﴾ من الأشياء والأحكام وكلِّ ما يتعلَّق بهذا الخلق، فالكون كلُّه محكوم بإرادة الله وقُدرته، أما علمُ الله فهو الثابت الذي لا يتغيَّر ﴿وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ أصلُ الكتاب الذي قدَّر فيه المقادير على وفق علمه سبحانه الأزليِّ الأبديِّ، فطرُوُّ العلم بالنسبة لله محال، وكلُّ ما يحصُل في هذا الكون من تعاقُب النبيِّين بالشرائع المختلفة، أو تعاقُب الحوادث، وتغيُّر الأحوال فإنما هو محكومٌ بعلم الله الشامل الذي لا يغِيبُ عنه شيء.
﴿وَإِن مَّا نُرِیَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِی نَعِدُهُمۡ﴾ من العذاب.
﴿أَوۡ نَتَوَفَّیَنَّكَ﴾ قبل ذلك.
﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِی ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ﴾ إنذارٌ للمشركين بأن كلَّ سلطان آيِلٌ إلى النقصان ثم الزوال، وهذه سنَّة من سنن الله.
والمقصود بالأرض هنا: الدولة والسلطان الذي يقوم على أرضٍ محددةٍ، ثم تتآكل هذه الدولة وينكمش ذلك السلطان، وهذا أمر مُشاهَد ومعلوم في كلِّ أمم الأرض، وقرينةُ هذا التفسير قوله: ﴿وَٱللَّهُ یَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ﴾ سبحانه.
﴿فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِیعࣰاۖ﴾ لأن الله يعلم حقيقةَ مكرهم ﴿یَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسࣲۗ﴾ وسيجازيهم عليه بما يناسبه من الجزاء، فكأنهم لم يمكروا إلا بأنفسهم ﴿وَسَیَعۡلَمُ ٱلۡكُفَّـٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ﴾.
﴿وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ هم علماء أهل الكتاب الذين شهِدُوا لرسول الله بحسب ما يعلمونه من أوصافه في كتبهم، والله أعلم.