سورة إبراهيم تفسير مجالس النور الآية 24

أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا كَلِمَةࣰ طَیِّبَةࣰ كَشَجَرَةࣲ طَیِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتࣱ وَفَرۡعُهَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ ﴿٢٤﴾

تفسير مجالس النور سورة إبراهيم

المجلس السادس بعد المائة: توجيهات إيمانية وتربوية


من الآية (24- 52)


بعد هذه الومضات السريعة من قصص النبيين واختلاف الناس عليهم بين مصدّق ومكذّب وما كتبه الله لهؤلاء وهؤلاء من نتائج محتومة ومحكومة بسنن الله العادلة، تأتي هذه التوجيهات الكريمة والودودة لهذه الأمة، وكأنها خُلاصةٌ لما ينبغي أن تستَفِيده من دروس وعبر من تلك التجارب الماضية:
أولًا: الكلمة الطيبة النابعة من القلوب الطيبة، والتي يتقبلها الله عنده، ويعمُّ خيرها وينتشر بين الناس، هي كلمة الإيمان والإحسان، وكلمة الحق والصدق ﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا كَلِمَةࣰ طَیِّبَةࣰ كَشَجَرَةࣲ طَیِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتࣱ وَفَرۡعُهَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ ﴾.
وهذا التشبيهُ الجميلُ مدعاةٌ لكل عاقل أن يطيِّب كلامه، وأول الكلام الطيب كلمة (لا إله إلا الله)، والتي يقرُّ فيها هذا المخلوق بفضل خالقه عليه، وتعهُّده له بالشكر والطاعة، وأداء الحقوق.
وفي مقابل هذا التوجيه يأتي التحذير من الكلمة الخبيثة، التي لا تنبعث إلا من قلب خبيث لا يقرُّ بالحق لأحد، ولا يرى في هذا الكون إلا نفسه وشهوته ومصلحته العاجلة، فيكفر بحق الله، ويكفر بحق الناس ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِیثَةࣲ كَشَجَرَةٍ خَبِیثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارࣲ ﴾.
ثم وعد الله عباده المؤمنين أن يثبتهم على الحق ويذكِّرهم بكلمة الحق التي يتشوَّقون إليها، خاصة في مرحلة الانتقال من هذه الدار إلى تلك الدار ﴿یُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡأَخِرَةِۖ ﴾ بخلاف أولئك الذين ﴿بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرࣰا وَأَحَلُّواْ قَوۡمَهُمۡ دَارَ ٱلۡبَوَارِ﴾.
ثانيًا: بعد الكَلِمِ الطيب يأتي العمل الطيِّب ﴿قُل لِّعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ یُقِیمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ﴾، مع التذكير أن هذا الإنفاق إنما هو مما سخَّرَه الله لهذا الإنسان ويسَّرَه له ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ رِزۡقࣰا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِیَ فِی ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرَ ﴾، ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ ﴾.
فحريٌّ بالعاقل أن ينسب هذه النعمة إلى مصدرها، وأن يكون شاكرًا ووفيًّا للمُنعِم الذي تفضَّل عليه بهذه النعم، وأن لا يستعملها بخلاف ما يُرضِيه سبحانه.
ثالثًا: تقديم النموذج الأمثل للكلم الطيب والعمل الطيب، وهو هنا إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام.
والنموذج الإبراهيمي في هذه السورة يتَّسِق تمامًا مع التوجيهَين السابقَين؛ فيبدأ بالقول الطيب إيمانًا وإحسانًا ومحبةً للخير ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنࣰا وَٱجۡنُبۡنِی وَبَنِیَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ ﴾، ثم ثنَّى بالعمل الطيب ﴿رَبَّنَا لِیُقِیمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾، ﴿رَبِّ ٱجۡعَلۡنِی مُقِیمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّیَّتِیۚ﴾، ثم الشعور الدائم بالتقصير والحاجة إلى المغفرة ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لِی وَلِوَ ٰ⁠لِدَیَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ یَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡحِسَابُ﴾.
رابعًا: تثبيت قلوب المؤمنين ومدُّهم بمقوِّمات الثقة وهم يواجهون صَولة الباطل وانتفاش ريشه ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًا عَمَّا یَعۡمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَۚ ﴾، ثم يلتفت بالخطاب إلى هؤلاء الظالمين أنفسهم: ﴿وَسَكَنتُمۡ فِی مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَیَّنَ لَكُمۡ كَیۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ ﴾، ثم يرجع بالخطاب إلى المؤمنين مؤكِّدًا ومُطَمئِنًا: ﴿فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزࣱ ذُو ٱنتِقَامࣲ ﴾.


﴿كَشَجَرَةࣲ طَیِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتࣱ وَفَرۡعُهَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ ﴾ شبَّهَ الكلمة الطيبة بالنخلة الباسقة الثابتة في الأرض والدائمة العطاء، وهو تشبيه قريب من البيئة التي نزل فيها القرآن، ولا يمنع إطلاق المثل على كل شجرة فيها مثل هذه الصفات في أي بيئة أخرى.
﴿تُؤۡتِیۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِینِۭ ﴾ لأن التمر قابلٌ للادخار على مدار السنة، وهو قوت لا يكاد يخلو منه بيت في جزيرة العرب.
﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِیثَةࣲ كَشَجَرَةٍ خَبِیثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ ﴾ قيل: هي الحنظل لمرارتها، والظاهر أنها النباتات الطفيلية التي ليس لها جذور في الأرض ولكنها تشتبك مع أغصان الأشجار الأخرى، وتطغى عليها، وتمصُّ ماءها وغذاءها، وهي ضعيفةٌ في نفسها لا تَقوَى على البقاء والاستغناء، وهي المثلُ المناسبُ للباطل الذي يزهو ويتمدَّد في المظاهر والسقوف الخاوية، ويؤذي بتمدُّده الأشجار الطيبة لكنه إلى زوال.
﴿یُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡأَخِرَةِۖ ﴾ تثبيت المؤمن بقول الحق في حياته الدنيا دون نفاق ولا تردُّد مُؤْذِنٌ بحسن الخاتمة وحسن العاقبة، والقول الثابت يبدأ بكلمة التوحيد، ثم ما يُبنَى عليها من عقائد وتصوُّرات في عالَمَي الغيب والشهادة.
﴿بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرࣰا﴾ كفروا بنعمة الله وجحدوها، وكان الأجدَرُ بهم أن يشكروا الله ويُقرُّوا له سبحانه بالفضل والمنَّة.
﴿دَارَ ٱلۡبَوَارِ﴾ الهلاك.
﴿قُلۡ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِیرَكُمۡ إِلَى ٱلنَّارِ﴾ الأمر هنا للتهديد، يقول لهم: تمتَّعُوا في هذه الدنيا كما تَشتَهُون فإن مصيركم النار.
﴿خِلَـٰلٌ﴾ صداقة تنفع أو تَقِي من عذاب الله.
﴿دَاۤىِٕبَیۡنِۖ﴾ في حركة دائِبة ومستمرة لا تنقطع، ومن هذه الحركة يتولَّدُ الليل والنهار، وفي هذا إشارة علمية واضحة.
﴿وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ﴾ حاجات الإنسان كلها متوفِّرة في هذه الدنيا، حتى قيل: حاجة الإنسان لشيءٍ ما دليل على وجوده، وهذا ظاهر في المطعومات والمشروبات والملبوسات والأدوية والضوء والهواء وأسباب السكن والعمران والوقود مما لا يحصى، إضافةً إلى الحاجات العقلية والمعنوية والعاطفية والاجتماعية وغيرها.
﴿رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنࣰا وَٱجۡنُبۡنِی وَبَنِیَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ ﴾ قدَّمَ الأمنَ على الإيمان، إشارةً إلى أن الاستقرار والسكينة والطمأنينة تُعينُ الناسَ على التفكير السليم المُوصِل إلى الإيمان والمعارف الكونية الصحيحة، بخلاف حالة الفوضَى والفتنة والاضطراب، والله أعلم.
﴿وَمَنۡ عَصَانِی فَإِنَّكَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ﴾ أيُّ قلبٍ رحيمٍ تملِكُه يا إبراهيم؟ إنه يدعو لمن خالَفَه وعصاه في هذا الأمر العظيم بالمغفرة والرحمة!
﴿فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ﴾ فكلُّ ما يجِده المسلمُ في قلبه من حَنينٍ إلى تلك البقاع، فإنما هو أثرٌ لهذه الدعوة الخالدة.
﴿تَشۡخَصُ فِیهِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ﴾ تتوقَّف باتجاهٍ واحدٍ لا تتحرَّك أو تغمض من شدة الهول والترقُّب، وأكَّد هذا المعنى بقوله: ﴿لَا یَرۡتَدُّ إِلَیۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ ﴾.
﴿مُهۡطِعِینَ﴾ مُسرِعين.
﴿مُقۡنِعِی رُءُوسِهِمۡ﴾ يرفعون رؤوسهم مترقِّبين، وهي الصورة المكملة لشخوص الأبصار.
﴿وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَاۤءࣱ﴾قلوبهم خالية من السكينة والطمأنينة كما كانت خالية من الإيمان.
﴿ أَوَلَمۡ تَكُونُوۤاْ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالࣲ ﴾ عنها، أي: الدنيا، خطاب للمشركين الذين كانوا يُنكِرون الحياة الآخرة، ويُقسِمون أنهم ليس لهم انتقال وتحوُّل عن هذه الدار.
﴿وَسَكَنتُمۡ فِی مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ﴾ من الأمم السابقة؛ كقوم هود، وقوم صالح، فقد حلَلْتُم في هذه الأرض التي كانوا يسكنونها قبلكم.
﴿وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ ﴾ أي: محفوظ ومسجَّل ليُجازِيهم عليه.
﴿وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ ﴾ أي: ما كان مكرُهم ليُزيلَ الجبال عن أماكنها، وفيه إشارة إلى أنه مهما بلغ مكرهم فلن يضرَّ هذا الدين الراسخ رسوخ الجبال.
﴿ مُّقَرَّنِینَ فِی ٱلۡأَصۡفَادِ﴾ مقرُونين ومُقيَّدين بعضهم مع بعض.
﴿سَرَابِیلُهُم مِّن قَطِرَانࣲ﴾ طلاء أسود كرِيه الرائحة، قابل للاشتعال.