سورة إبراهيم تفسير مجالس النور الآية 5

وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَیَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ ﴿٥﴾

تفسير مجالس النور سورة إبراهيم

المجلس الخ س بعد المائة: ومضات من سيرة النبيين مع أقوامهم


من الآية (1- 23)


أولًا: تستهِلُّ هذه السورة المباركة ببيان رسالة القرآن ومهمته الكبرى في هذه الحياة ﴿كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ﴾ وهذا الصراط هو الصراط المستقيم الذي أكَّدَتْه سورة الفاتحة؛ صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴿ٱلَّذِینَ یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡأَخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ﴾، وأنَّ رسالةَ القرآن هذه قد جاءت باللغة البيِّنة التي يفهمها الناس ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ ﴾ وهذا من تمام الحجَّة عليهم.
ثانيًا: ثنَّى القرآن بالتذكير بقصَّةِ موسى عليه السلام مع قومه ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾ هذه إذن رسالة التوراة، وهي نفسها رسالة القرآن؛ إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكان من بواكير هذا التحوُّل المبارك: ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَسُومُونَكُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ وَیُذَبِّحُونَ أَبۡنَاۤءَكُمۡ وَیَسۡتَحۡیُونَ نِسَاۤءَكُمۡۚ ﴾، ثم رغَّبَهم وأنذَرَهم ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَىِٕن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِیدَنَّكُمۡۖ وَلَىِٕن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدࣱ ﴾.
ثالثًا: ثلَّثَ القرآن بذكر موقف مشتركٍ لعددٍ من الأنبياء السابقين ممن واجَهُوا صدودَ أقوامهم وتكذيبهم لما جاءوا به ﴿أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤاْ أَیۡدِیَهُمۡ فِیۤ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِی شَكࣲّ مِّمَّا تَدۡعُونَنَاۤ إِلَیۡهِ مُرِیبࣲ﴾. وهنا يقوم الأنبياء بمهمتهم في محاورة هؤلاء وكشف شُبهاتهم ﴿۞ قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِی ٱللَّهِ شَكࣱّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ ﴾، وحينما تقول لهم أقوامهم: ﴿ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا﴾ يُجِيبُهم أنبياؤهم: ﴿قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ﴾ فنحن وإياكم في البشريَّة سواء، فلسنا من طِينةٍ أخرى، ولا من كوكبٍ آخر!
وهذا الجواب من شأنه أن يخفِّف من حدَّة العداوة والحسد، لكن المشركين اختاروا طريق العُنف والتهديد ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۖ ﴾ وكان الردُّ الحاسِم: ﴿فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴾.
وهكذا يعرض القرآن للتجربة المحمديَّة في الدعوة ومقاومة الشرك والوثنيَّة بين تجربتَين مختلفَتَين؛ تجربة موسى الذي استجاب له قومه، فنجَّاهم الله من فرعون وملئه، وتجربة نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ونحوهم ممن تنكَّرَت لهم أقوامهم بالعناد والمكابرة والإيذاء، فكان عاقبتهم الهلاك، وفي هذا تنبيهٌ لقريش وباقي الناس الذين تصِلُهم هذه الدعوة المُباركة.
رابعًا: في الخِتام يُذكِّر القرآن بالنتيجة الحتميَّة التي تنتظر الجميع، إنها الوعد الحقُّ الذي لا مفرَّ منه، والذي سيتلفَّت فيه المكذِّبون إلى ما كانوا يملكونه من مالٍ وجاهٍ وقوةٍ وسلطان فلا يجدون سوى السراب والضياع ﴿أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّیحُ فِی یَوۡمٍ عَاصِفࣲۖ لَّا یَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَیۡءࣲۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلضَّلَـٰلُ ٱلۡبَعِیدُ ﴾، ثم يكون التلاوم والتندم والتحسُّر، والعياذ بالله ﴿وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِیعࣰا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰۤؤُاْ لِلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعࣰا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَیۡءࣲۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَیۡنَـٰكُمۡۖ سَوَاۤءٌ عَلَیۡنَاۤ أَجَزِعۡنَاۤ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِیصࣲ ﴾، واستكمالًا لهذا المشهد البئيس ينبَرِي الشيطانُ فيزيدهم حسرةً وندامةً وملامةً ﴿وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ﴾.
وفي مقابل هؤلاء البائِسِين يقف أولئك الأبرار الذين تحملوا مسؤوليتهم في هذه الحياة، وعرفوا وظيفتهم وغاية خلقهم ﴿وَأُدۡخِلَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡۖ تَحِیَّتُهُمۡ فِیهَا سَلَـٰمٌ﴾.


﴿لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ﴾ عام في كلِّ الظلمات؛ ظلمات الأفكار، والثقافات، والسياسات المؤدِّية إلى الكفر، والظلم، ونكَد الحياة.
﴿إِلَى ٱلنُّورِ﴾ الرحمة الشاملة ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ ﴾ [الأنبياء: 107].
﴿یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡأَخِرَةِ﴾ ينسون الآخرة ويخالفون الطريق المستقيم؛ تغليبًا لمصالحهم وشهواتهم الدنيوية القاصرة.
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ﴾ يَرِد هنا سؤال: إذا كان محمد مبعوثًا لكلِّ العالمين وليس للعرب خاصة، فلماذا جاء بلسان العرب فقط؟
والجواب: نعم، رسالة الإسلام رسالة عالميَّة، هذا لا ريب فيه، لكنه بُعِثَ في مكة، فكان عليه أن يُخاطِبَ مَن حوله بلسانهم، حتى إذا اشتدَّت الدعوة بهم وأقبل الناس إليها من كلِّ صَوبٍ، كان نَقْلُها إلى الأقوام الأخرى أيسر وأسهل، وهذا الذي حصَل، أما أن يكون هناك لسانٌ عالميٌّ واحدٌ فهذا مُتعذِّر.
﴿لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ﴾ بقوله وعمله وسيرته العطرة، وهذا كلُّه من البيان، وقد ثبَتَت حجِّيَّته بهذه الآية وغيرها.
﴿وَذَكِّرۡهُم بِأَیَّىٰمِ ٱللَّهِۚ ﴾ سنن الله الماضية وما أصاب الأقوام السابقين.
﴿ وَیَسۡتَحۡیُونَ نِسَاۤءَكُمۡۚ﴾ يتركوهن أحياء، وهذه لوحدها قد تكون نعمة لولا اقترانها بذبح الأبناء، فيكون إبقاؤهن على قيد الحياة لإذلالهن واسترقاقهن.
﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ﴾ من الأذان، وهو الإعلام والإبلاغ المعلَن.
﴿حَمِیدٌ ﴾ مستحقٌّ للثناء والحمد.
﴿فَرَدُّوۤاْ أَیۡدِیَهُمۡ فِیۤ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ ﴾ أي: وضعوا أكفَّهم على أفواههم كأنهم يكتمون ضَحِكَهم، وهي صورة معروفة للتهكُّم والاستهزاء.
﴿أَفِی ٱللَّهِ شَكࣱّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ﴾ لأن دلالة الخلق على الخالق كدلالة الأثر على المؤثِّر، والنتيجة على السبب، دلالة عقلية بديهيَّة لا تحتمل الشك والخلاف، وفاطرُ السموات والأرض يعني: مُوجِدها من العدم على غير مثالٍ سبق.
﴿وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ﴾ المعهودة وهي التي هدَّدُوا بالإخراج منها.
﴿وَٱسۡتَفۡتَحُواْ﴾ سألوا الله الفتح، وهو هنا النصر.
﴿مَّاۤءࣲ صَدِیدࣲ﴾ القَيْح الخارج من القروح والجروح.
﴿یَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا یَكَادُ یُسِیغُهُۥ ﴾ يقترب منه قسرًا واضطرارًا فيكره شربه ولا يستسيغه.
﴿وَیَأۡتِیهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانࣲ وَمَا هُوَ بِمَیِّتࣲۖ ﴾ تأتيه أسباب الموت فلا يموت.
﴿وَمَا ذَ ٰ⁠لِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِیزࣲ﴾ بصعب أو ممتنع، بل هو سهلٌ ويسيرٌ.
﴿قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَیۡنَـٰكُمۡۖ ﴾ الله لم يهدِهم؛ لأنهم هم الذين لم يطلبوا الهداية، فكان مثلهم كالأحمق الذي لا يمُدُّ يده إلى الدواء القريب منه، ثم يقول: الله لم يشفِني، فكان الحقُّ أن يلوموا أنفسهم ولا يتذرَّعوا بأقدار الله.
﴿وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ﴾ فيه دليلٌ على أن الشيطان لا يملك إلا الوسوسة وتزيين الباطل، أما ما يتوهَّمه بعض الناس من قدرات خارقة للشيطان، وأنه يتحكم في عقل الإنسان أو جسده، فهذا كلُّه مردود بهذه الآية، وبقوله تعالى أيضا: ﴿إِنَّ كَیۡدَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ كَانَ ضَعِیفًا ﴾ [النساء: 76].
﴿مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِیَّ﴾ ما أنا بمُغِيثكم وما أنتم بمُغيثيَّ.