المجلس السابع بعد المائة: معركة القرآن مع المكذِّبين
من الآية (1- 25)
في معركته مع المُكذِّبِين يبدأ القرآن بتقرير المقدِّمات والحقائق التي تكشف طبيعة هذه المعركة ودوافعها ومآلاتها:
أولًا: إن القرآن يُحقِّق مصلحة الإنسان، وأن المكذِّبين سيكتشفون هذه الحقيقة بأنفسهم وسيُذعنون لها، وسيتمنَّون لو أنهم قد استجابوا لها ﴿رُّبَمَا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِینَ﴾.
ثانيًا: إنّ التكذيب لم يصدُر عن رأيٍ وفكرٍ وشعورٍ بالمسؤولية، وإنما جاء عنادًا وحسدًا ومكابرةً ﴿كَذَ ٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِی قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ ﴿١٢﴾ لَا یُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿١٣﴾ وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَابࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَظَلُّواْ فِیهِ یَعۡرُجُونَ ﴿١٤﴾ لَقَالُوۤاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَـٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمࣱ مَّسۡحُورُونَ﴾.
ثالثًا: إن طبع المكذِّبين هؤلاء الاستهزاء والشتيمة، والتنابُز بالألقاب الوضيعة ﴿وَقَالُواْ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِی نُزِّلَ عَلَیۡهِ ٱلذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونࣱ﴾، ﴿وَمَا یَأۡتِیهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾.
رابعًا: إن هذا القرآن تعهَّد الله بحفظه، فلا تعترضه زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ وهذا الواقع الذي لا يقبل الريب، فبعد أربعة عشر قرنًا من الزمان بما احتَوَتْه من فتنٍ وملاحم، وصعودٍ وهبوطٍ، بقِيَ القرآن كما هو يتلُوه ابنُ المشرق كما يتلُوه ابنُ المغرب بسوره وآياته وحروفه.
خامسًا: إن الله سبحانه هو الذي بيده مقادير هذا الكون، وليس من حركةٍ ولا سكنةٍ إلا بعلمه سبحانه ﴿وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَـٰهَا وَأَلۡقَیۡنَا فِیهَا رَوَ ٰسِیَ وَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ شَیۡءࣲ مَّوۡزُونࣲ ﴿١٩﴾ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِیهَا مَعَـٰیِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَ ٰزِقِینَ ﴿٢٠﴾ وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَاۤىِٕنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥۤ إِلَّا بِقَدَرࣲ مَّعۡلُومࣲ﴾. ﴿وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا ٱلۡمُسۡتَقۡدِمِینَ مِنكُمۡ وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا ٱلۡمُسۡتَـٔۡخِرِینَ﴾.
﴿رُّبَمَا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِینَ﴾ ذلك يوم الندامة، وربما وإن كانت تفيد التقليل إلا أنها هنا جاءت للتهكُّم والتهديد، كقول الملك لواحدٍ من رعيَّته محذِّرًا ومهدِّدًا: ربما ستندم إذا فعلت كذا وكذا، وهو أسلوب معروف. ﴿لَّوۡ مَا تَأۡتِینَا﴾ أسلوب طلب مثل هلَّا. ﴿وَمَا كَانُوۤاْ إِذࣰا مُّنظَرِینَ﴾ جوابٌ لشرطٍ مُقدَّرٍ معناه: لو أنزلنا عليهم الملائكة كما طلبوا لما تأخَّر عنهم العذاب. ﴿كَذَ ٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِی قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾ ندخل الكفر في قلوبهم بسبب جرائمهم على وفق سنن الله أن من يطلب الإيمان آمَن، ومن يطلب الكفر كفر؛ ولذلك عقَّبَ بذكر السنن ﴿وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِینَ﴾. ﴿بُرُوجࣰا﴾ المنازل التي تدور فيها الأفلاك. ﴿وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَ ٰزِقِینَ﴾ فالذين تُطعمونهم إنما تُطعمونهم من رزق الله وما خلق من الطيبات، فالرازق الحقُّ إنما هو الله. ﴿وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّیَـٰحَ لَوَ ٰقِحَ﴾ من جملة وظيفة الرياح في هذه الأرض أنها تجمع الغيوم بعضها على بعض حتى تتراكم فينزل المطر، وتجمع ذرَّات النباتات فُحُولها بإناثها حتى يتكوَّن الثمر. ﴿وَنَحۡنُ ٱلۡوَ ٰرِثُونَ﴾ الباقون بعد هلاك الخلائق. ﴿وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا ٱلۡمُسۡتَقۡدِمِینَ مِنكُمۡ وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا ٱلۡمُسۡتَـٔۡخِرِینَ﴾ فلا يغيب عن علمه سبحانه حال الأولين ولا حال الآخرين، فالماضي والحاضر والمستقبل كلها عند الله سواء.