تستهل السورة بإنذارٍ شديدٍ يقرع الأسماع ويخلع القلوب
﴿أَتَىٰۤ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ﴾ والغاية جذب انتباه الناس إلى الحقيقة الكبرى التي عليها مدار الدين
﴿أَنۡ أَنذِرُوۤاْ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ﴾، ثم تشرَع السورة بالتقاط الدلائل المبثوثة في هذا الكون والتي لا يمكن إلا أن تكون قد انبثقت من تلكم الحقيقة:
أولًا: خَلْق الإنسان
﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن نُّطۡفَةࣲ فَإِذَا هُوَ خَصِیمࣱ مُّبِینࣱ﴾ وقد بدأ بخلق الإنسان؛ لأنه أعقل المخلوقات في هذا العالم المنظور عالم الشهادة، فإذا كان الإنسان لا يقوم بنفسه ويحتاج في وجوده إلى مُوجدٍ فسائر الموجودات من باب أَولَى، والإنسان مُقرٌّ بهذه الحقيقة؛ فلم يظهر من البشر من يدَّعِي أنه خلق نفسه، أو أن وجوده ليس مسبوقًا بالعدم، فضلًا عن أن يكون هو خالق السماوات والأرض.
وإقرارُ الإنسان بهذه الحقيقة يدفعه بالاضطرار لوجود خالقٍ أعلم منه وأقدر، وليس من بين عالم المحسوسات من هو كذلك، ولم يبق أمام الإنسان إذن إلا أن يهبط ليعبد من هو دونه؛ كالشجر والحجر، أو يسمو نحو العلوّ متجهًا بقلبه وعقله إلى العليم الخبير الذي تشهد له آياته في كلّ زاوية من زوايا هذا الخلق.
ثانيًا: خلق
الأنعام ﴿وَٱلۡأَنۡعَـٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِیهَا دِفۡءࣱ وَمَنَـٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ﴾ فهي مسخرة لهذا الإنسان وهو لا يستغني عنها بحال، وإذا كان الإنسان لا يدّعي أنه هو الذي خلق لنفسه هذه
الأنعام رغم حاجته إليها فلم يبق إلا اعترافه بوجود خالقٍ حكيمٍ أوجد الإنسان وأوجد له مقومات وجوده قبل أن يوجد!
ثالثًا: خلق الماء
﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰۖ لَّكُم مِّنۡهُ شَرَابࣱ وَمِنۡهُ شَجَرࣱ فِیهِ تُسِیمُونَ﴾ فالحياة كلها متوقّفة على الماء، والماء قطعًا ليس من صنعة الإنسان، فالذي خلق الإنسان هو الذي خلق له الماء، وهو أعلم به وبحاجته منه.
رابعًا: خلق النبات
﴿یُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلنَّخِیلَ وَٱلۡأَعۡنَـٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾.
فانظر لهذا النسق الوظيفي بين الماء والنبات و
الأنعام والإنسان! هذا النسق الذي لا يمكن أن تستوعبه الصُّدفة العمياء، إن التنسيق بين هذه المفردات ووزنها بالقدر الذي تؤدّي فيه كلّ مفردة وظيفتها حتى تتكامل الحياة وتستمر لا بُدَّ أن يكون وراءه إرادةٌ عالمةٌ وحكيمةٌ، وعزو كلِّ هذا إلى عشوائيّة الصدفة نوعٌ من المُكابرة أو الحماقة.
خامسًا: خلق الأفلاك
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَ ٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ جانب آخر من النسق، جانب الفلك العلوي الذي يؤثّر في حياة الناس من حيث الضوء والظلمة، والحرارة والبرودة، وأنواع الإشعاع والطاقة، وكلّ هذه يراها الإنسان ويستشعر أهميتها وضرورتها في حياته، وهو غير قادر على التحكم بها، بل تهبِط عليه من عَلٍ، وهذه آية أخرى تشهد بوجود الخالق العظيم الذي أتقَنَ كلّ شيء خلقه.
سادسًا: خلق البحار
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمࣰا طَرِیࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡیَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِیهِ﴾ بعد أن لفت القرآن نظر الإنسان إلى ذلك العالم العلوي، هبط به إلى أعماق البحر لينظُر في آياته، فالبحر مخزنٌ للثروة بأنواعها المعروفة، وهو واسطةٌ للنقل أيسر وأسرع مما هو على الأرض.
سابعًا: بعد هذه السياحة الكونيّة الواسعة، جاء القرآن ليخاطب هذا العقل خطابًا سريعًا ومباشرًا وكأنه يهزّه من داخله
﴿أَفَمَن یَخۡلُقُ كَمَن لَّا یَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ ثم يلتفت إلى هذه الآلهة المزيّفة
﴿وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا یَخۡلُقُونَ شَیۡـࣰٔا وَهُمۡ یُخۡلَقُونَ﴾ فكلّ هذه الأصنام والأوثان مهما اختلفت ألوانها وأشكالها لا يمكن أن تكون هي العلة في إنتاج هذا الكون وتصميمه على هذا النسق البديع.
ثامنًا: من الملاحظ هنا اهتمام القرآن بآيات الجَمال والزينة، وهو ارتفاعٌ بمستوى الذوق والسلوك الإنساني في تعامله مع مفردات هذا الكون
﴿وَلَكُمۡ فِیهَا جَمَالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَحِینَ تَسۡرَحُونَ﴾،
﴿لِتَرۡكَبُوهَا وَزِینَةࣰۚ﴾،
﴿وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡیَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ﴾.