سورة النحل تفسير مجالس النور الآية 32

ٱلَّذِینَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ طَیِّبِینَ یَقُولُونَ سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٣٢﴾

تفسير مجالس النور سورة النحل

المجلس الثاني عشر بعد المائة: عقيدة الجزاء


من الآية (24- 35)


بعد هذا الاستدلال المفصَّل لردِّ شُبهة الشرك وإثبات عقيدة التوحيد، انتقل القرآن إلى بيان العقيدة المكمِّلة لعقيدة التوحيد وهي عقيدةُ الجزاء، وهي العقيدة الدافعة للالتزام بمقتضيات التوحيد؛ إذ التوحيد مسؤوليّة وليس فلسفةً نظريّة لحل عقدة الخلق على طريقة الفلاسفة عند ربط العلة بالمعلول، دون الخوض في مسؤوليّة الإنسان تجاه هذا الاستنتاج.
ومن معاني عقيدة الجزاء التي تناوَلَتها هذه الآيات:
أولًا: أن الإنسان يتحمَّل مسؤوليَّاته كاملةً عن كلِّ معتقدٍ مالَ إليه، أو عملٍ قامَ به، وأن الله لا يظلم في هذا أحدًا ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ ﴿٣٣﴾ فَأَصَابَهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾.
أما احتِجاجُهم بالقدر وسلب الإرادة منهم على طريقة الجبرية، فهو مردودٌ عليهم ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲ نَّحۡنُ وَلَاۤ ءَابَاۤؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَیۡءࣲۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ فَعَلَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِینُ﴾.
ثانيًا: أن الناس وفق هذه العقيدة سينقسمون على قسمين: فريق الموحِّدين المُحسِنين ﴿لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۚ وَلَدَارُ ٱلۡأَخِرَةِ خَیۡرࣱۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِینَ﴾، وفريق المشركين الظالمين ﴿ٱلَّذِینَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوۤءِۭۚ بَلَىٰۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿٢٨﴾ فَٱدۡخُلُوۤاْ أَبۡوَ ٰ⁠بَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۖ فَلَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِینَ﴾.
ثالثًا: أن الجزاء في الإسلام جزاء أخروي لا شكَّ، وهو الناموس الذي لا يفلت منه أحد، أما في الدنيا فقد يعجِّل الله بهلاك قومٍ، وقد يؤخِّر آخرين، وقد يموتُ الظالِمُ ظالمًا ويموت المظلوم مظلومًا.
ومن صور العذاب الدنيوي: ﴿قَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡیَـٰنَهُم مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَیۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَیۡثُ لَا یَشۡعُرُونَ ﴿٢٦﴾ ثُمَّ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُخۡزِیهِمۡ﴾، ومن صور الثواب الدنيوي: ﴿لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۚ وَلَدَارُ ٱلۡأَخِرَةِ خَیۡرࣱۚ﴾.
رابعًا: أن الإنسان كما يُحاسَب على أعماله يُحاسَب أيضًا على أعمال من يضلون بسببه ﴿لِیَحۡمِلُوۤاْ أَوۡزَارَهُمۡ كَامِلَةࣰ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَمِنۡ أَوۡزَارِ ٱلَّذِینَ یُضِلُّونَهُم بِغَیۡرِ عِلۡمٍۗ﴾.
وإذا كان هذا في ميزان الضلال والإضلال فهو كذلك في ميزان الهداية لازمًا ومتعديًا، فداعية الخير يضاعف له بقدر ما انتشر خيره بين الناس، كما جاء في الحديث: «الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ».


﴿یُضِلُّونَهُم بِغَیۡرِ عِلۡمٍۗ﴾ أي: بغير حجةٍ ولا دليلٍ.
﴿فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡیَـٰنَهُم﴾ قصده بالخراب، وهو عامٌ في الأمم الهالكة، الذين استحقوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وقد ذهب بعض المفسرين إلى تخصيصه في النمرود أو غيره ولا دليل عليه.
﴿مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ﴾ من الأُسس.
﴿تُشَـٰۤـقُّونَ فِیهِمۡۚ﴾ تخاصمون فيهم وتدافعون عنهم.
﴿فَأَلۡقَوُاْ ٱلسَّلَمَ﴾ استسلموا وألقوا قيادهم.
﴿فَلَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِینَ﴾ إشارة إلى أن التكبّر أصل في الضلال والانحراف عن جادة الحقّ.
﴿مَاذَاۤ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَیۡرࣰاۗ﴾ هم المؤمنون الذين يعتقدون أن الخير كلّ الخير في هذا الدين، فانشرحت له صدورهم ودانت له أركانهم، وعلى هذا يخشى على كلّ من تبرّم من حُكمٍ شرعيٍّ قاطع أن يكون على خلاف هذه الآية وإن صام وصلّى.
﴿لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُواْ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۚ﴾ ما يجده المؤمن في هذه الدنيا من سكينةٍ وتأييدٍ رباني، وأُلفةٍ ومحبةٍ بين إخوانه.
﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ تأكيدٌ لمعنى العدل الإلهي ﴿فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 7].
﴿أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ﴾ لقبض أرواحهم.
﴿أَوۡ یَأۡتِیَ أَمۡرُ رَبِّكَۚ﴾ بقيام الساعة أو الهلاك الذي يعمهم كما كان في الأمم السابقة.
﴿فَأَصَابَهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ تأكيدٌ متكرر لمبدأ العدل الإلهي.