يستمر القرآن في هذا المقطع بمحاورة المشركين مُفصِّلًا ومُتمِّمًا لما بدأَ به في المقطع السابق:
ثامنًا: فصّل القرآن في هذا المقطع ما أجمله من النعم هناك، مذكّرا بنعمة الماء وما تستتبِعُه من إحياء الأرض
﴿وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤۚ﴾، ثم ذكّر ب
الأنعام وما فيها من منافع
﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِی ٱلۡأَنۡعَـٰمِ لَعِبۡرَةࣰۖ نُّسۡقِیكُم مِّمَّا فِی بُطُونِهِۦ مِنۢ بَیۡنِ فَرۡثࣲ وَدَمࣲ لَّبَنًا خَالِصࣰا سَاۤىِٕغࣰا لِّلشَّـٰرِبِینَ﴾، ثم النباتات بأنواعها
﴿وَمِن ثَمَرَ ٰتِ ٱلنَّخِیلِ وَٱلۡأَعۡنَـٰبِ تَـتَّـخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرࣰا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ﴾.
ثم وفي الْتِفاتة عزيزة ودقيقة، ذكَرَ
النحل وما يُنتِجُه من شفاء للناس
﴿یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ﴾، ثم ذكر الطيور المسخّرات في جوّ السماء
﴿أَلَمۡ یَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّیۡرِ مُسَخَّرَ ٰتࣲ فِی جَوِّ ٱلسَّمَاۤءِ مَا یُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ﴾.
ثم ذكر المساكن بأنواعها وما فيها من متاعٍ وأثاثٍ
﴿وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُیُوتِكُمۡ سَكَنࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ بُیُوتࣰا تَسۡتَخِفُّونَهَا یَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَیَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَاۤ أَثَـٰثࣰا وَمَتَـٰعًا إِلَىٰ حِینࣲ ﴿٨٠﴾ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَـٰنࣰا﴾، ثم ذكر الملابس والدروع
﴿وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُم بَأۡسَكُمۡۚ﴾، وختم كلّ هذا بقوله:
﴿كَذَ ٰلِكَ یُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ﴾ بمعنى أن الذي يفكِّر بهذا النسق من النعم المنظومة والمتكاملة لا بُدّ أن يقوده تفكيره إلى الاستسلام والإذعان بوجود خالقٍ قادرٍ وعليمٍ وحكيمٍ سبحانه وجلَّ شأنه.
تاسعًا: أضاف في هذه الآيات معاني جديدة متصلة بخلق الإنسان وحياته الاجتماعيّة
﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ یَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن یُرَدُّ إِلَىٰۤ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَیۡ لَا یَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمࣲ شَیۡـًٔاۚ﴾،
﴿وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَ ٰجِكُم بَنِینَ وَحَفَدَةࣰ﴾ وهذه آية أخرى على وجود الخالق ـ، فالتكامل بين الذكر والأنثى لاستقرار العيش واستمرار الحياة لا يمكن أن يكون وليد الصدفة العابثة، فأثر القصد ظاهر في هذا التنوّع، وقطعًا ليس الذكَر هو من صنع لنفسه الأنثى، وليست الأنثى هي من صنعت لنفسها الذكر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
عاشرًا: ربط القرآن كلّ هذه النعم بنعمة العقل والنظر والتفكّر؛ ولذلك تكرر في ثنايا هذه النعم قوله:
﴿لِّقَوۡمࣲ یَسۡمَعُونَ﴾،
﴿لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾،
﴿لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾ فدلائل التوحيد قائمة وشاخصة في كلّ نعمة من هذه النعم، ولكنها بحاجة إلى الإنسان الذي يُعمل عقله ويفتح منافذ المعرفة عنده، وقد زوّد الله هذا الإنسان بأدوات المعرفة المتكاملة فلا عذر لمعتذر
﴿وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾.
حادي عشر: أكَّد لهم أن أصنامَهم التي يعبُدُونها من دون الله لا تستطيع أن تخلُق كهذا الخلق، ولا أن تُقدِّم لهم شيئًا
﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقࣰا مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَسۡتَطِیعُونَ﴾.
وقد استعمل القرآن لتجْلية هذه الحقيقة أسلوبَ التمثيل بما هو معهُودٌ عندهم، فقارَنَ أولًا بين العبد المملوك الذي لا يملك شيئًا وبين الحُرِّ الذي يملك وينفق مما يملك، ثم قارن بين رجلٍ أبكم لا يقدر على الكلام وبين آخر متكلمٍ عالم ٍيأمر بالعدل والمعروف، ولا يخفى أن هذا تقريب للصورة، فأصنامهم مخلوقة مملوكة وهي بكماء صماء عمياء لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا، فكيف تكون هذه ندًّا لله العليم الحليم الكريم السميع البصير؟!
وسياقُ الآيات يدلُّ على أن التمثيل جاء في سياق بيان بطلان عقيدة الشرك، وأن هذه الأصنام عاجزة وجاهلة
﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقࣰا﴾ وأما قول من قال: إن التمثيل جاء لبيان الفارق بين المؤمن والكافر، فظاهر السياق لا يسعفه، والله أعلم.
ثاني عشر: أكَّد لهم أن عنادهم هذا سينتهي إلى لحظةِ ندمٍ قاسية، ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ
﴿وَإِذَا رَءَا ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُواْ شُرَكَاۤءَهُمۡ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰۤـؤُلَاۤءِ شُرَكَاۤؤُنَا ٱلَّذِینَ كُنَّا نَدۡعُواْ مِن دُونِكَۖ﴾.